غزة- يتساءل الفلسطيني الخمسيني أحمد البغدادي عن شعور الرجل عندما لا يجد في جيبه مصروفا لأبنائه، ويجيب بنفسه عن السؤال، ويقول “إنه العجز الذي يصيب بالاكتئاب”.
وتربط دراسة حديثة للبنك الدولي بين ظروف المعيشة المتدنية وظهور أعراض تتسق مع حالة الاكتئاب لدى 71% من السكان في قطاع غزة الساحلي الصغير والمحاصر منذ 16 عاما، تعرض خلالها أكثر من مليوني فلسطيني لـ4 حروب دامية، وموجات متلاحقة من العدوان الإسرائيلي.
وتكبّد البغدادي خسائر مادية فادحة في منزله في مخيم البريج للاجئين في مناسبتين؛ الأولى في حرب عام 2014، والثانية في حرب عام 2021، جراء غارات جوية إسرائيلية عنيفة أصابت المنزل الذي يُؤوي أسرته المكونة من 6 أفراد بأضرار جسيمة.
الاحتلال والظروف النفسية
يعيل البغدادي (57 عاما) -وهو موظف حكومي متقاعد- 4 أبناء؛ 3 منهم طلبة في الجامعات. ويقول للجزيرة نت إنه يتقاضى راتبا تقاعديا يتبقى منه 1500 شيكل (حوالي 416 دولارا) بعد خصم الدفعة الشهرية من قرض بنكي اضطر إليه لإعادة بناء ما دمرته الحرب في منزله.
ويقول الناطق باسم متضرري حرب عام 2014 عبد الهادي مسلّم للجزيرة نت، إن 60 ألف متضرر من تلك الحرب كأمثال البغدادي لم يتلقوا تعويضات، من بينهم أصحاب 355 منزلا تعرضت للهدم الكلي، والبقية للهدم الجزئي.
ويعيش هؤلاء -وفق مسلّم- واقعا مريرا جراء السنوات الطويلة التي مرت عليهم من دون تعويض عن الضرر، الأمر الذي ترك آثارا سلبية على حياتهم وأسرهم.
واضطر البغدادي إلى أخذ قرض بنكي بقيمة 14 ألف دولار لإعادة إعمار منزله، ويخصم البنك شهريا نحو نصف راتبه التقاعدي البالغ 2900 شيكل، وما يتبقى لا يفي باحتياجات الأسرة. وقال “الغالبية في غزة تشعر بدرجة من درجات الضغط والاكتئاب (..) والسبب الرئيسي هو الواقع الاقتصادي السيئ، وشعور الرجال بالعجز”.
ولا يشعر البغدادي بالأمان ويساوره قلق دائم من إعادة تعرض منزله للتدمير مرة ثالثة، الأمر الذي ترجمته دراسة حديثة للبنك الدولي أظهرت زيادة احتمال تعرض السكان في غزة للصدمات أكثر من الفلسطينيين في الضفة الغربية.
ووفقا لنتائج المسح الذي أعلن قبل يومين، فإن 65% من سكان غزة مقابل 35% من سكان الضفة تعرّضوا لوقائع مأساوية صادمة خلال العام 2022.
وعرض البنك الدولي نتائج مسح الظروف النفسية للفلسطينيين، وهو أول مسح استقصائي أجراه على صعيد وطني في الضفة والقطاع بالتعاون مع الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، والمركز الدولي للأمن والتنمية، ومركز “أوبرليبين” (مقره برلين).
ويقول البنك الدولي على موقعه الرسمي، إن نتائج المسح تبعث على القلق؛ إذ إن 58% من السكان الفلسطينيين البالغين، تظهر عليهم أعراض تتسق مع حالة الاكتئاب، وفقا لمؤشر الرفاهة لمنظمة الصحة العالمية. وتبلغ النسبة 71% في غزة، و50% في الضفة الغربية، إضافة إلى تأكّد إصابة نحو 7% من البالغين في الضفة وغزة باضطراب ما بعد الصدمة.
الفقر بوابة الاكتئاب
ويعيل الستيني محمد صايمة أسرة من 5 أفراد، بينهم ابن أنهى دراسته الجامعية ولا يزال عاطلا عن العمل، وآخر لا يزال في سنته الجامعية الثانية، وبنت بالثانوية العامة. ويقول للجزيرة نت إنه اضطر تحت ضغط الأوضاع المعيشية الصعبة إلى اللجوء للبنك والحصول على قرض بقيمة 16 ألف دولار، لإصلاح منزله، وأمامه 4 أعوام ونصف لسداده.
ويتقاضى صايمة (63 عاماً) راتبا بقيمة 2400 شيكل لا تكفي لسد القرض والإيفاء بالتزامات أسرته، لكنه يعتبر نفسه أفضل حالا من آلاف العاطلين عن العمل.
ووفق مسح البنك الدولي، بلغ معدل البطالة مع نهاية العام الماضي 45% في غزة، و13% في الضفة الغربية، ويعاني الشباب في غزة من مستويات مرتفعة للغاية من الإقصاء الاقتصادي، إذ يبلغ معدل البطالة في صفوفهم بالقطاع قرابة 70%.
وتُظهِر نتائج مسح الظروف النفسية للفلسطينيين، وجود صلة واضحة بين أوضاع القوى العاملة وخطر الإصابة بالاكتئاب، إذ إن الحصول على وظيفة والعمل بدوام كامل يرتبط ارتباطا وثيقا بانخفاض كبير في أعراض الاكتئاب.
كما يُظهر المسح ارتباطا قويا بين درجات الاستهلاك الغذائي والإجهاد النفسي، فنقصان الأمن الغذائي يرتبط ارتباطا وثيقا بزيادة الإجهاد النفسي.
وتشير بيانات وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) إلى أن زهاء 80% من سكان غزة يعتمدون في معيشتهم على مساعدات إغاثية إنسانية.
وقال شاب في أواخر الـ20 من عمره يتشارك وصديقه نرجيلة واحدة في مقهى يعج بأمثالهما من الشباب، إنهما يتقاسمان ثمنها البالغ 10 شيكلات (أقل من 3 دولارات).
هذان الشابان والكثير من رواد المقاهي المنتشرة في غزة هم من خريجي الجامعات العاطلين عن العمل. ويقول أحدهما مفضلا عدم ذكر اسمه “عمري 28 عاما ولا أزال أتلقى مصروفي من أبي.. والله عيب، لكن ما باليد حيلة”.
ولم يستغرب هذا الشاب النسبة المرتفعة للذين يعانون من الاكتئاب التي ظهرت في دراسة البنك الدولي، وقال “كلنا مكتئبين بدرجات متفاوتة”.
تشخيص علمي
ويفسر مدير عام الصحة النفسية والمجتمعية بوزارة الصحة في غزة الدكتور جميل سليمان، النسب العالية الواردة في دراسة البنك الدولي باعتمادها أعراض الاكتئاب وليس المرض. وأوضح للجزيرة نت أن هناك أعراض عدة يجب توفرها مجتمعة في الشخص الواحد كي يصنف مريضَ اكتئاب.
وقال إن مريض الاكتئاب بحاجة للعلاج بالدواء وبغيره، أما الشخص المصاب بعرض من أعراض الاكتئاب خاصة في مجتمع محافظ ومتماسك مثل غزة فإنه يزول بالصلاة والدعاء وبإسناد الأهل والأحباب.
وحدد سليمان ما يجابهه القطاع الصغير والمكتظ سكانيا من حصار وحروب أدت إلى ارتفاع معدلات الفقر والبطالة، كأسباب رئيسية تؤدي إلى إصابة الفرد بعرض أو أكثر من أعراض الاكتئاب.
ويتفق الدكتور سامي عويضة استشاري الطب النفسي للأطفال والمراهقين ومدير مركز مجتمعي تابع لبرنامج غزة للصحة النفسية، مع الدكتور سليمان فيما ذهب إليه، ويقول للجزيرة نت إن “معظم الناس لديهم أعراض اكتئاب، وبتوفر 5 أعراض في الشخص الواحد يتحول إلى مريض بالاكتئاب”.
وبالنسبة لعويضة فإن الاكتئاب في غزة له خصوصية عن باقي العالم لارتباطه بشكل أساسي بالواقع الاقتصادي، وبسياسات الضغط الإسرائيلية الهادفة إلى إفقار الفلسطيني وحرفه عن قضاياه الوطنية.
وقال الاستشاري النفسي إن غياب الأمل وأفق حياة أفضل خاصة للشباب، وعدم توفر فرص العمل، وارتفاع معدلات الفقر والبطالة، والشعور بالإهانة في السفر وعلى المعابر، تراكمات تؤدي إلى الاكتئاب وقد تؤدي إلى الانفجار.
اكتشاف المزيد من صحيفة 24 ساعة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.