صباح الخير، أو ربما مساء الخير، المهم أننا نمتلك موضوعا يبعث التفاؤل في النفوس، أو التشاؤم على الأرجح. لحظة، إنها حكاية فريق فاز، عفوا، خسر المباراة الأهم له منذ أكثر من 10 سنوات. مهلا، قد نبدو كأننا لا ندري ماذا نقول، ولكنها ليست مشكلتنا، نحن فقط بصدد الحديث عن فصل جديد من فصول النادي الذي اتخذ الجنون عنوانا له، فبات يمنح العالم الشيء وعكسه في آن واحد.
بعد نهاية المباراة النهائية لدوري الأبطال، اشتعلت مدرجات إنتر وكأنه الفريق الفائز، المشهد لفت أنظار الجميع، بينما يبكي اللاعبون في حسرة وتكاد ملامحهم تخبرك عن رغبتهم في انشقاق الأرض وابتلاعهم في الحال، يقفون أمام جماهيرهم التي تصنع الحدث في مشهد مليء بالمشاعر المتضاربة التي تشبه حالة التيه التي تلازمنا حتى الآن(1).
ربما لم يكن هناك ما هو أكثر قدرة على التعبير من ذلك المشهد، حيث مزيج من الألم والأمل الذي تتعايش معه جماهير إنتر منذ عقود، تودع حلما وتنتظر ما يخبئه القدر في الموسم المقبل، والذي سيكون رائعا بكل تأكيد بعد الوصول إلى تلك المحطة المهمة، أو ربما يكون الأسوأ على الإطلاق، عفوا، هي ليست محاولة لإعادة إنتاج كوميديا الستينيات، بل هو واقع إنتر المفتوح على كل الاحتمالات وعكسها.
https://www.youtube.com/watch?v=KUG9FrY1RYY
باتزا إنتر
منذ سنوات، اعتادت جماهير إنتر القفز على إيقاع أغنية “باتزا إنتر آمالا”، والتي تعني “أعشق إنتر المجنون”، يستمتعون بترديدها، خاصة حين تمنحهم الحياة واحدا من تلك السيناريوهات التي تعزز خطر الإصابة بالأزمات القلبية وارتفاع ضغط الدم تحت مسمى الجنون والإثارة، ولكن ألا يصبح أي شيء مملا بالتكرار حتى لو كان الإثارة نفسها؟(2)
الشيء وعكسه، تناقض بين المقدمات والنتائج، خسارة حين تتوقع الفوز، وفوز حين تتوقع الخسارة، كلها أشياء تزيد من جمالية كرة القدم بين محبيها وتجعلها أكثر عشوائية وترفع مستوى إثارتها، إلا أن مشجع النادي الذي يعيش على ذلك بإمكانه أن يشعر بالملل عند لحظة تكرار السيناريو للمرة السابعة والتسعين بعد الستمئة، أليس كذلك؟
هنا أنت لست أمام إثارة من تلك التي تعرفها، ولكن مستوى من المجهول ربما لم يسبق لك مشاهدته، حيث مؤشرات تدعو للتفاؤل والتشاؤم في آن واحد. لقد وصلت الـ”باتزا إنتر” إلى حد الجنون بمعناه الذي يستلزم تدخل مستشفيات الأمراض العقلية، وليس بالمعنى الدارج في كرة القدم!
ولأنه حان الوقت للدخول في التفاصيل، فباختصار، إنتر لديه وضع مثالي وآخر كارثي، الوصول إلى المباراة النهائية لدوري أبطال أوروبا يمنحك الفرصة للتنفس، ولكنه لن ينقذك من الغرق كليا، وهنا نصطدم بجوهر المشكلة، أن كل الإشادات والحديث عن الإنجاز والسر الكامن في الرحلة يتعلق بنادٍ يعاني، أو ربما خلق ليعاني من الأساس(3).
نجيب الريحاني لم يمت
هل شاهدت فريقا يلعب بـ3 قمصان في موسم واحد من قبل؟ لا لا، الحديث ليس عن القميص الأساسي والاحتياطي، وإنما 3 قمصان مختلفة، واحد يظهر عليه اسم أحد الرعاة، والثاني باسم راعٍ آخر، وبينهما ثالث دون أي اسم. كثيرون لاحظوا ذلك بالطبع وسألوا عن السبب، حتى إن بعضهم فسّر ذلك بما يحدث مع الشركات التي تُحظر في بعض الدول ولا يظهر اسمها في تلك المباريات، وللمفاجأة، ليس هذا هو السبب، بل كان السبب “إنتراويا” بامتياز! (4)
نتحداك ألا تضحك، ما حدث هو أن إنتر بعد عامين من فسخ عقده مع شركة “بيريللي” لإطارات السيارات بعدما جمعتهما شراكة تاريخية امتدت منذ 1995 وحتى 2020، اختار شركة “DigitalBits” للعملات الرقمية لتكون الراعي الجديد لقمصان الفريق دونا عن كل شركات العالم، على طريقة الفنان المصري الراحل “نجيب الريحاني” حين اختار السمكة الفاسدة بيديه من ضمن 1,000 سمكة في فيلم “غزل البنات”(5)(6)(7).
ولأن إنتر أسوأ حظا من نجيب الريحاني، تعرضت الشركة لخسائر فادحة نتيجة ركود سوق العملات الرقمية في الموسم الذي تعاقد فيه النيراتزوري معهم، وهو الموسم نفسه الذي وصلوا فيه إلى نهائي دوري أبطال أوروبا، ليفشلوا في دفع قيمة التعاقد ويتعرض الإنتر لخسائر مالية قُدّرت بحوالي 25 مليون يورو نتيجة عدم دفع أي من أقساط عقد الرعاية، الذي فُسخ قبل شهر واحد من نهاية الموسم، ومن المباراة النهائية لدوري الأبطال، ربما تجعلك هذه القصة تعيد النظر في كون الأزمة الاقتصادية الإيطالية التي أعقبت ثلاثية إنتر في 2010 ليست مجرد صدفة وتصادف(8)(9).
إدارة إنتر أنقذت الموقف واتفقت مع شركة “+Paramount” ليظهر اسمها على قميص الفريق في آخر مباريات الدوري الإيطالي أمام تورينو ونهائي دوري أبطال أوروبا أمام مانشستر سيتي، على أن ينتقل اسم الشركة إلى ظهر القميص في الموسم المقبل ويتعاقد الفريق مع راعٍ جديد يُنتظر أن ينشب حريق في مقره -من قبيل الصدفة- بحلول أبريل المقبل(10).
أن تنقذ غريقًا ثم تضربه على رأسه
وعلى ذكر سمكة الريحاني الفاسدة، فإن إنتر بعد انتقال ملكيته من عائلة موراتي إلى الإندونيسي إريك توهير، وبعد تلك الرحلة القصيرة التي اقتحم فيها كوندوغبيا وجواو ماريو وغابرييل باربوسا قائمة أغلى 5 صفقات في تاريخ النادي، استقر إنتر في ملكية مجموعة سونينغ الصينية التي نجحت في إعادته إلى الواجهة، قبل أن يصبح النيراتزوري حالة مميزة لدراسة نظرية أثر الفراشة، على أنها صدفة وتصادف بالطبع(11)(12).
في 2021، وفي أعقاب أزمة كورونا التي كانت الصين منشأها، قررت الحكومة الصينية فرض قيود على المستثمرين خارج البلاد، من أجل الحفاظ على أكبر كم من أموال المستثمرين داخل الصين، وعليه، فقد تحوّلت بشكل مفاجئ سياسة النيراتزوري من الميول الاستثمارية إلى توفير النفقات، لتثبت التجربة أن رفرفة أجنحة فراشة في الصين يمكنها تجريد نادي كرة قدم من طموحاته في ميلانو(13).
الصدفة والتصادف هذه المرة أن ذلك حدث في العام الذي عاد فيه إنتر إلى منصات التتويج بوصفه بطلا للدوري الإيطالي بعد غياب 11 عاما، وهي الصدفة نفسها التي جعلت أزمة الرعاة تحدث في موسم الوصول لنهائي دوري أبطال أوروبا، وعلى الأرجح هي الصدفة نفسها التي قادت رأسية دي ماركو إلى ظهر لوكاكو، بينما يبلغ عرض المرمى 7 أمتار و42 سنتيمترا، ويرتفع لمترين و44 سنتيمترا(14).
هذه الأزمة دفعت سونينغ لأخذ قرض بقيمة 275 مليون يورو من شركة الاستثمار الأميركية أوكتري كابيتال، نفس ما فعله مُلّاك ميلان الصينيون قبلها بسنوات مع بنك إيليوت، قبل أن يفشلوا في سداد القرض وتنتقل ملكية النادي إلى البنك الأميركي، ليتركوا العالم حائرا في رحلة بحث عن منشأ تلك المادة المخدرة التي تنتج من اتحاد المستثمرين الصينيين مع أندية ميلانو(15)(16).
وفي أكتوبر/تشرين الأول من عام 2021، كُشف عن كارثة كبرى، وهي خسارة مالية قياسية في ميزانيته للسنة المالية 2020-2021 بقيمة 245.6 مليون يورو، جعلت إنتر يكافح كل عام من أجل بيع أبرز نجومه وتعويضهم بصفقات أقل قيمة من أجل سداد ذلك العجز، وذلك القرض الذي يهدد بفقدان المجموعة الصينية لملكية النادي(17).
هدايا القدر، ورجل يدعى جيوسيبي ماروتا، ومدرب طموح مثل سيموني إنزاغي، على الترتيب، ساعدوا إنتر على ضخ أموال لم تكن في الحسبان، من خلال بيع اللاعبين وإنقاذ كوارث الرعاة والوصول إلى نهائي دوري أبطال أوروبا حيث الحصول على نحو 100 مليون يورو أرباحا من اليويفا، ولكن لأنك تتحدث عن إنتر، فإن تلك الأموال التي من المفترض نظريا أن تؤمن الفريق في أزمته الاقتصادية -يا للمفاجأة- لن تؤمن الفريق في أزمته الاقتصادية(18)(19).
بناء أم هدم؟
ما دمت أنك وصلت إلى هنا، فعلى الأرجح لن تتفاجأ حين تدرك أن إنتر أمام فرصة تاريخية للبناء على نجاح الموسم المنصرم، ثم تجده يهدم المعبد فوق رؤوس أصحابه. هذا ما تخبرنا به الصورة حتى الآن، وربما يقرر النيراتزوري سلوك أحد الطريقين، فتقوده الصدفة والتصادف إلى الطريق المضاد.
نظريا، أمّنت أرباح الموسم حفاظ إنتر على قوامه الأساسي، ولكن عمليا فإن مبلغ 70 مليون يورو قد يجعلهم يوافقون على بيع أندريه أونانا، ومثله سيزيد من احتمالية التفريط في نيكولو باريلا، علما بأن شكرينيار رحل مجانا بعد رفض بيعه مقابل 60 مليون يورو مع تبقي عام واحد فقط في عقده الصيف الماضي، لأن النيراتزوري أراد الـ70 مليون يورو نفسها، وحتى الآن لا أحد يعلم السر وراء هذا الرقم تحديدا(20)(21).
أما عن دجيكو، فإنه يزحف نحو السابعة والثلاثين من عمره، ويستعد للرحيل إلى تركيا، وليس مضمونا أن يوافق تشيلسي على بيع لوكاكو أو تجديد إعارته، ورحيل بروزوفيتش يظل الاحتمال الأقرب، ولا يوجد اسم كبير يفاوضه إنتر سوى ميلينكوفيتش سافيتش الذي تمتد المفاوضات معه منذ 2018 وحتى الآن، وتعب مصممو “الفوتوشوب” من تغيير صورته بقميص النيراتزوري كل عام(22)(23)(24).
المثير للضحك أنه من الممكن أن يحافظ الفريق على قوامه الأساسي ويضيف عليه لاعبا أو اثنين ويتحرك المشروع للأمام بعد كل ذلك، ولكن من الوارد أيضا أن ينتهي كل شيء ويرحل أعمدة الفريق واحدا تلو الآخر. العجيب أن الـ”باتزا إنتر” تتغلغل داخل كل تفاصيل هذا النادي للدرجة التي تجعلك لا تستغرب أبدا من توقع الشيء ونقيضه، بينما يقفز المشجعون في الخلفية ويغنون بصخب كأنهم حققوا الثلاثية للتو.
خدعة الحظ
القانون الوحيد الذي يحكم الحظ هو أنه ليس له قانون يحكمه، يضحك لك دون سبب ويكشّر دون مقدمات، عادة لا تسأل: “لماذا أنا؟” حين يمنحك أكثر مما تستحق، رغم أنك تكرر السؤال نفسه كثيرا حين يحرمك مما تمنيته، بينما يكون سخيفا للغاية حين يمهد لك الطريق نحو حلمك، ثم يسلبه منك في اللحظة الأخيرة.
بعد نهائي دوري أبطال أوروبا بين إنتر ومانشستر سيتي، قال النجم السابق للنيراتزوري إستيبان كامبياسو إن عددا من لاعبي الفريق أخبروه أنهم كانوا يفضلون الخسارة بثلاثية نظيفة على الخسارة بهدف واحد مع كونك الطرف الأفضل والأقرب للفوز، ورغم أن السيناريو الواقعي أخرجهم مرفوعي الرأس وأكسبهم احترام العالم، فإن الصعود للأعلى يجعل السقوط أكثر إيلاما، ولمس الحلم بيديك يجعل انزلاقه من بينهما أشد مرارة(25).
لقد منح القدر إنتر فرصة لتجاوز دور المجموعات، ومنحه القرعة الأسهل نظريا ليمهد له الطريق نحو النهائي، ولكن كل ذلك كان أشبه بالطعم الذي يجمع أكبر قدر ممكن من الأحلام فقط ليذكر أصحابها أنها لن تتحقق، ويخرج لهم لسانه في المشهد الأخير، ويمنحهم فرصة للانضمام إلى قائمة أعظم الخاسرين تاريخيا، التي يحصل أصحابها على حصة من التصفيقات التي تستمر لساعات، بينما يبقى أثر الذكريات المؤلمة لوقت أطول بكثير.
ابتسامات القدر الأولى هذه المرة منحت إنتر عشرات الملايين من اليوروهات، وفرصة للظهور بالقرب من منصات التتويج، وخسارة ستبقى مرارتها تلازم كل من عاشها، في مشهد تختلط فيه المشاعر للحد الذي يجعلك تتمنى ألا تكون من بين أبطاله، أن تشاهده من بعيد بمشاعر محايدة، حيث تحيي البطل وتنحني احتراما للخاسر الملهم الذي لم يستحق مرارة خسارته، ولكنه سيشعر بها وحده على كل حال.
—————————————————————–
المصادر
1 – ملخص ما قدمته جماهير إنتر في نهائي دوري أبطال أوروبا 2023
2 – نشيد إنتر الرسمي
3 – كيف وصل إنتر إلى نهائي دوري أبطال أوروبا
4 – لماذا لعب إنتر بدون راعٍ في نهايات موسم 2023؟
5 – إنتر يفسخ عقده مع الشريك التاريخي إطارات “بيريللي”
6 – إنتر يتعاقد مع ديجيتال بيتس ليكون الراعي الجديد قبل انطلاق موسم 2023
7 – فيلم سي عمر – بطولة نجيب الريحاني
8 – لماذا فسخ إنتر عقده مع ديجيتال بيتس قبل نهاية موسم 2023؟
9 – تفاصيل معاناة إيطاليا من الأزمة الاقتصادية في 2010
10 – إنتر يتعاقد مع Paramount+ كراعٍ جديد لمباراتين فقط قبل نهائي دوري أبطال أوروبا
11 – حقبة إريك توهير في إنتر الإيطالي بالأرقام – ترانسفير ماركت
12 – أغلى 10 لاعبين في تاريخ إنتر
13 – بيع 23% من “سونينغ” الصينية يثير مخاوف بشأن مستقبل نادي إنتر ميلان
14 – فرصة دي ماركو الضائعة بعد اصطدامها بروميلو لوكاكو في نهائي دوري أبطال أوروبا
15 – قرض إنتر القياسي من شركة الاستثمار الأمريكية أوكتري كابيتال
16 – كيف انتقلت ملكية ميلان إلى بنك إيليوت الأمريكي؟
17 – مشروع إنتر ميلان.. حكاية نادٍ كُتبت عليه المعاناة في أسعد أوقاته – ميدان
18 – على خطى يوفنتوس.. هل يستعيد إنتر ميلان هيبته على يد ماروتا؟ – ميدان
19 – إنتر ميلان يبعث الأمل والطموح في خسارة دوري أبطال أوروبا
20 – إنتر ينتظر عرض بـ 70 مليون يورو من أجل بيع أندريه أونانا
21 – إنتر ينتظر عرض بـ 70 مليون يورو من أجل بيع نيكولو باريلا
22 – إنتر ينتظر عرض باريس سان جيرمان بـ 70 مليون يورو من أجل بيع شكرينيار – صيف 2022
23 – ميلينكوفيتش سافيتش على طاولة إنتر
24 – بروزوفيتش يقترب من الانضمام للنصر السعودي
25 – كامبياسو: بعض لاعبي إنتر أخبروني أنهم كانوا يفضلون الخسارة 3/0 في نهائي دوري أبطال أوروبا
اكتشاف المزيد من صحيفة 24 ساعة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.