بحثت كثيرا في شبكة الإنترنت عن النسخة الكاملة لخطة الإدارة الأميركية الإستراتيجية العشرية لمنع الصراع وتحقيق الاستقرار في ليبيا؛ ولكن دون جدوى، إذا لم أجد سوى الملخص الذي نشرته الحكومة الأميركية باللغتين العربية والإنجليزية.
وقد ورد في هذا الملخص أن المكتب الخارجي للولايات المتحدة المعني بليبيا والشركاء من مختلف الوكالات في الإدارة الأميركية؛ وضع الخطة الإستراتيجية الخاصة بليبيا من خلال تحليل صارم ومشاورات مكثفة مع مجموعة من النظراء الثنائيين ومتعددي الأطراف.
وسيعمل هؤلاء النظراء كشركاء مهمين في تنفيذ تلك الخطة، كالاتحاد الأفريقي في المصالحة الوطنية، والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي في التسريح ونزع السلاح وإعادة الإدماج، بالإضافة إلى أكثر من 35 منظمة مجتمع مدني ليبية وغير ليبية.
الدول (الفاعلة) في ليبيا هي الدول التي تلعب أدوارا مباشرة حاليا في المشهد السياسي الليبي، مثل تركيا ومصر والإمارات العربية المتحدة، وروسيا والصين، وبالرغم من أن الأخيرة لم تُذكر صراحة، فإنها لا تغيب عن الوعي الإستراتيجي للولايات المتحدة مطلقا، منذ أن صنفتها بأنها المهدد الأكبر
وهذا يعني أن الولايات المتحدة ستعيد تنظيم وتوجيه كافة الجهود الدولية والإقليمية التي تعمل في ليبيا منذ فترة طويلة، وخاصة بعد ثورة فبراير/شباط 2011 وسقوط نظام معمر القذافي.
وسنعرض لأمثلة من هذه الجهود والخطط التي تنتظمها في المقال المقبل -بإذن الله- والتي تؤكد أن مساعي الولايات المتحدة لإعادة تنظيم وتوجيه هذه الجهود هو من قبيل الطموح، وغير قابل للتطبيق لتعارضه في الخطط الدولية القائمة، وأولوياتها، وأنظمة إدارتها، وطبيعة مواردها المالية، وتوجهات الدول التي تقف وراءها.
أهداف الخطة الأميركية في ليبيا
يتمثل هدف الولايات المتحدة العام طويل المدى المعلن لهذه الخطة في “أن تحكم ليبيا سلطة منتخبة ديمقراطيا، وموحدة، ومُمثلة، ومعترف بها دوليا وقادرة على ضمان حقوق الإنسان، وتقديم الخدمات العامة، وتعزيز النمو الاقتصادي الشامل والمستدام، وتأمين حدودها، وخلق شراكة مع الولايات المتحدة والمجتمع الدولي بشأن الأولويات المشتركة”.
وتؤكد الخطة أن الولايات المتحدة “ملتزمة بمساعدة الليبيين في كفاحهم المستمر من أجل مستقبل أكثر سلاما واستقرارا واتحادا”، وأن الولايات المتحدة وشركاءها الدوليين يشاركون بنشاط في المجال الدبلوماسي “لمساعدة ليبيا على اتخاذ خطوات ملموسة نحو إيجاد حكومة موحدة وحكم شامل وديمقراطي واستقرار سياسي”.
وانطلاقا من ذلك؛ تحدد الخطة ظاهريا 4 أهداف شاملة قابلة للتطوير تشارك في تحقيقها الجهات المعنية في الإدارة الأميركية: الدبلوماسية والإنمائية والأمنية. وهذه الأهداف على النحو التالي:
- مساعدة ليبيا على الانتقال إلى “نظام سياسي موحد ومنتخب ديمقراطيا ومستقر، يتمتع بمشاركة واسعة من المجتمع الليبي”، يكون قادرا على “تقديم خدمات عامة مستهدفة بشكل فعّال ومنصف، وحماية حقوق الإنسان لجميع الليبيين”.
- مساعدة ليبيا على دمج الجنوب في الهياكل الوطنية، مما يؤدي إلى توحيد أوسع وتأمين أفضل للحدود الليبية الجنوبية.
- مساعدة ليبيا على تكوين جهاز عسكري وأمني موحّد وخاضع لسيطرة مدنية، مع تحكم مطلق في الاستخدام المشروع للقوة القادرة على الحفاظ على الاستقرار والمساهمة في تحقيق أهداف الأمن الإقليمي.
- مساعدة ليبيا على النهوض بالبيئة الاقتصادية والتجارية بما يعزز النمو الاقتصادي المستدام والعادل، ويحد من الفساد، ويتيح إدارة أفضل للإيرادات.
ذكرت الإستراتيجية أن هذه الأهداف قابلة للتطوير، بل التغيير والاستبدال إذا لزم الأمر، وفقا لتغيّر الأوضاع الأمنية على الأرض. وهي أهداف لا تختلف كثيرا عن الأهداف المخصصة لهاييتي، انطلاقا من الإطار العام لإستراتيجية إدارة بايدن العشرية لإيقاف الصراع وتعزيز الاستقرار، باستثناء الهدف الثاني والخاص بإدماج جنوب ليبيا في الهياكل الوطنية للدولة.
تحذر الخطة من أن الجهات الخارجية الفاعلة في ليبيا، بما في ذلك روسيا، تعمل على استغلال الوضع غير المستقر فيها، مما يشكل تهديدا للجناح الجنوبي لحلف الناتو، ويزيد من زعزعة استقرار منطقة الساحل.
وهذا ما جعل الولايات المتحدة في الخطة؛ تولي جنوب ليبيا اهتماما خاصا لمنع هذه الجهات “الفاعلة الخبيثة” من استغلال أنظمة الحكم المحلي الهشة بحثا عن ملاذات آمنة للأنشطة الإرهابية وغير المشروعة. وهذا يكشف عن مستوى ثانٍ من الأهداف التي يمكن ترتيبها في ضوء الخطة على النحو التالي:
- منع الأطراف الإقليمية من الاستمرار في زعزعة الاستقرار في ليبيا.
- سد الطريق أمام روسيا من أي يصبح لها موضع قدم إستراتيجي في ليبيا؛ يعزز موقفها في الحرب الدائرة في أوكرانيا، وفي أي مواجهة واسعة محتملة بينها وبين حلف الناتو، خاصة أن بقية دول جنوب البحر المتوسط موالية للولايات المتحدة وحلفائها.
- تأمين منطقة جنوب حلف الناتو، أي دول جنوب البحر المتوسط، والحد من تدفق الهجرة غير النظامية والنشاطات الإرهابية باتجاه أوروبا.
لم يذكر ملخص الخطة المنشور المقصود بـ(الدول الفاعلة) أو (الدول الفاعلة الخبيثة)، ولكن الواضح من السياق؛ أن الدول الفاعلة هي الدول التي تلعب أدوارا مباشرة حاليا في المشهد السياسي الليبي، مثل تركيا ومصر والإمارات العربية المتحدة، وأن الدول الفاعلة الخبيثة هي روسيا والصين، فبالرغم من أن الأخيرة لم تذكر صراحة، فإنها لا تغيب عن الوعي الإستراتيجي لواشنطن مطلقا، منذ أن صنفتها بأنها المهدد الأكبر للولايات المتحدة.
تعترف الخطة بالعديد من المخاطر المتأصلة التي تسعى إلى معالجتها، والتي إذا لم يتم الحد منها، يمكنها أن تعرقل تحقيق أهدافها الإستراتيجية، وتشمل هذه المخاطر الوضع السياسي والأمني العام، ومدى قدرة الولايات المتحدة على الدخول بشكل أكبر إلى ليبيا للمشاركة في الجهود الدبلوماسية والإنمائية
ضمانات النجاح
حسب الخطة؛ فإن حكومة الولايات المتحدة ستقوم بالعديد من الخطوات التي تضمن تحقيق هذه الأهداف، وفي مقدمتها:
- دعوة أصحاب المصلحة المحليين والوكالات المختصة في حكومة الولايات المتحدة، والشركاء الدوليين لوضع خطوات ملموسة لتهيئة الظروف للسلام والاستقرار في ليبيا على المدى الطويل.
- العمل بنهج متكامل على مستوى الإقليم، لدعم جهود الوقاية التي تبذلها حكومة الولايات المتحدة عبر منطقة الساحل والمغرب وغرب أفريقيا الساحلية.
- المشاركة المتواصلة والمتكررة لأصحاب المصلحة المتعددين المحليين والإقليميين والدوليين. والتركيز -في المدى القريب- على اتباع نهج محلي “شعبي” لدعم حكم محلي ديمقراطي يستجيب للمواطن، ومبادرات مصالحة ناشئة ولكن واعدة يتم قيادتها على المستوى المحلي.
- اعتبار جنوب ليبيا هو النقطة المحورية لسلسلة جهود تدريجية متتابعة، من أجل إحراز التقدم في جميع المناطق الرئيسية الثلاث، شرق وغرب وجنوب ليبيا.
- التركيز على الدوافع المحددة للصراع وعدم الاستقرار وكيفية مواجهتها، من قبيل مشاركة الجنوب، ونزع السلاح، وتسريح وإعادة إدماج الجهات الفاعلة المسلحة، والمصالحة الوطنية.
- العمل على تهيئة الظروف اللازمة لإجراء انتخابات ديمقراطية على المدى الطويل، مثل مشاركة المواطنين، وبناء التوافق في الآراء، والإصلاح الدستوري، والحد من العنف، وإنجاح المصالحة.
- العمل على معالجة الحواجز السياسية التي أعاقت إجراء انتخابات ذات مصداقية حتى هذا اليوم.
- زيادة مشاركة وتمثيل النساء والشباب والمجموعات الأخرى المهمشة تقليديا والمُمثلة تمثيلا غير كامل في النظام السياسي الليبي.
- تعزيز العمليات السياسية والاقتصادية الأكثر شمولا، بما يساعد على بناء المرونة اللازمة لتحقيق السلام والاستقرار على المدى الطويل.
- الشراكة مع الجهات الفاعلة والمؤسسات ذات العقلية الإصلاحية لتحقيق الرؤية المحددة في هذه الخطة وتوسيع نطاق جهود الولايات المتحدة بمرور الوقت.
- إدخال وجهات النظر الليبية في جميع مراحل التنفيذ، والاستفادة من القدرات المحلية، وتعزيز آليات التنسيق مع الجهات المحلية الفاعلة، من أجل التخطيط والتقييم الإستراتيجيين، وإعداد مجموعات عمل محلية للمشاركة في التقويم والإشراف.
- المتابعة المشتركة للتقدم الذي يتم إحرازه في تحقيق الأهداف الإستراتيجية، عن طريق القياس ورصد الإنجازات.
- تمكين حكومة الولايات المتحدة من متابعة التنفيذ بشكل متكرر وقابل للتكيف، وترسيخ الجهود بشكل أفضل في المجتمعات المحلية، وإجراء التعديلات الإستراتيجية اللازمة في ضوء الأدلة والبيانات.
ومع ذلك؛ تعترف الخطة بالعديد من المخاطر المتأصلة التي تسعى إلى معالجتها، والتي إذا لم يتم الحد منها، يمكنها أن تعرقل تحقيق الأهداف الإستراتيجية للخطة.
وتشمل هذه المخاطر الوضع السياسي والأمني العام، ومدى قدرة الولايات المتحدة على الدخول بشكل أكبر إلى ليبيا للمشاركة في الجهود الدبلوماسية والإنمائية.
وتحدد الخطة سلسلة من تدابير التخفيف لمعالجة مثل هذه المخاطر، كالتنفيذ المرن الذي يمكّن من تعديل الأهداف عند الحاجة، واستمرار المشاركة والتشاور مع الكونغرس لتهيئة الظروف للنجاح، بما في ذلك دعم ميزانية الرئيس اللازمة لتنفيذ الخطة.
فهل ستنجح الإدارة الأميركية في الدخول إلى ليبيا بمستوى يساعدها على تحقيق الأهداف، وتوفير الضمانات اللازمة لتلك الخطوات؟ وكيف ستوفق بينها وبين خطط الشركاء من الدول الأوروبية والمنظمات الدولية، التي تعمل في ليبيا منذ سنوات؟ وماذا سيحدث لهذه الخطة بعد انتهاء فترة الرئيس بايدن وعودة الجمهوريين إلى السلطة؟
ثم كيف ستتعامل الإدارة الأميركية مع الأطراف الدولية والإقليمية العاملة في ليبيا، والتي تتعارض مصالح بعضها مباشرة مع أهداف الولايات المتحدة وشركائها؟ وأخيرا؛ كيف سيتعامل الليبيون مع هذه الخطة؟
(يتبع: ليبيا والشركاء المتشاكسون)
اكتشاف المزيد من صحيفة 24 ساعة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.