من الكتابة إلى صناعة المؤثرات وصولا إلى تسويق الأفلام، تزايد استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في صناعة السينما بشكل كبير في السنوات الأخيرة، ما دفع بالعديد من التساؤلات والمخاوف المشروعة حول دور البرمجيات والخوارزميات في عمليات صناعة الفنون، وهل يمكن أن يأتي زمن نشاهد فيه أعمالا سينمائية مصنوعة بالكامل دون أي تدخل بشري؟
مخاوف مشروعة
ظهرت ظلال هذه المخاوف والتساؤلات بقوة في إضراب كُتَّاب السيناريو الذي تشهده هوليوود منذ الثاني من مايو/أيار الماضي، ولا يزال مستمرا في شهره الثاني. وقد ظهرت تأثيراته بالفعل على الصناعة، بعدما أعلنت بعض الاستوديوهات الكبرى مثل ديزني عن اضطرارها لتأجيل مواعيد عرض بعض الأفلام، وإلغاء البعض الآخر.
يُعَدُّ الإضراب هو الأول من نوعه منذ إضراب الكُتَّاب عام 2007، وهو الحدث الذي أدى وقتها إلى خسائر بلغت مليونَيْ دولار. ويتعلق الإضراب الحالي بشكل أساسي بعدالة الأجور، لكن هناك جانب كبير منه أيضا يتعلق بمخاوف كُتَّاب السيناريو من تدخل الذكاء الاصطناعي في عملية صناعة الفنون، حيث قدمت نقابة الكُتَّاب اقتراحا يتضمن الالتزام بتعريف الكاتب في العقود بأنه “شخص” أو “إنسان” لضمان عدم الاستعانة بأدوات الذكاء الاصطناعي للكتابة، وهو توجه يثير مخاوف من الاستغناء عن الكُتَّاب البشريين أو على الأقل تقليص أعمالهم في المستقبل. (1)
بلاك ميرور يثير الهواجس
منذ سنوات كان افتراض أن الذكاء الصناعي يمكن أن يحل البشر مجرد مخاوف افتراضية مكانها الوحيد هو أفلام الخيال العلمي، لكن مؤخرا بدأنا بالفعل نرى العديد من الوظائف التي تقلص مقدار التدخل البشري فيها في صناعة الفنون، خاصة تلك المتعلقة بالتحرير، وتعديل الألوان، وصناعة المؤثرات. ولا يتعلق الأمر فقط بالتكنولوجيا وبمدى الدقة التي توفرها مقارنة بالعامل البشري، قدر تعلقه برغبة جهات الإنتاج في اللجوء إلى الأتمتة توفيرا للنفقات، وطمعا في المزيد من الأرباح.
لا يقتصر ذلك على العاملين وراء الكاميرا فقط، ففي الحلقة الأولى من الموسم الأخير لمسلسل “بلاك ميرور”، تكتشف البطلة جون أن إحدى شبكات البث تعيد تقديم أحداث حياتها باستخدام أفاتار للممثلة سلمى حايك، التي باعت صورتها الرقمية للشبكة لاستخدامها في برمجيات مصنوعة بالذكاء الاصطناعي. تسلط الحلقة الضوء على مخاوف الممثلين على أرض الواقع من مدى تأثير الذكاء الاصطناعي، واستخدام تقنيات التزييف العميق (Deep fake)، وتأثيراتها على مسيرتهم.
تُعَدُّ تقنية التزييف العميق واحدة من أبرز التقنيات الثورية التي رأيناها تُستخدم في عدد من الأعمال السينمائية لأغراض متعددة، استُخدمت على سبيل المثال في فيلم “The Irishman” لإعادة الفنان روبرت دينيرو إلى عمر الشباب من أجل أداء مشاهد الفلاش باك. كما استُخدمت في فيلم “Furious 7” بعد وفاة بطله بول ووكر قبل اكتمال التصوير، وذلك لاستكمال مشاهده في الفيلم. (2)
لكن هذه التقنية الثورية التي بدت واعدة، وقادرة على إعادة الزمن إلى الوراء، خلفت أيضا العديد من التساؤلات لدى نجوم هوليوود حول مستقبل مهنة التمثيل، في وقت يمكن ببساطة أن تؤدي صورتهم الرقمية الدور دون الحاجة إلى وجودهم الفعلي، وهي المخاوف التي تأمل آني ميرفي بطلة الحلقة الأولى من الموسم الجديد في مسلسل “بلاك ميرور” في تسليط المزيد من الضوء عليها.
الذكاء الاصطناعي وعدالة الموارد
إذا نظرنا للأمر من زاوية أخرى، فلا يمكننا إنكار ما أتاحته تقنيات الذكاء الاصطناعي المتطورة من مساحات جديدة لصناع السينما المستقلين، وجهات الإنتاج ذات الميزانيات المحدودة حول العالم لتطوير وصناعة الأفلام باستخدام موارد وتكاليف أقل، وهو ما يحقق نوعا من العدالة والتحرر، ويُمكِّن صناع السينما من سرد قصصهم دون الحاجة إلى ميزانيات ضخمة.
لقد شاهدنا كيف استخدمت شركة “A24” الذكاء الاصطناعي في صناعة فيلم “Everything Everywhere All at Once”، الذي كان حصده لعدد استثنائي من جوائز الأوسكار في مطلع العام الجاري بمنزلة تدشين لعالم جديد، يمكن فيه لصناع الأفلام أن يطلقوا العنان لخيالهم دون قلق من التكلفة المرتفعة لإنتاج المؤثرات البصرية التي طالما وقفت حائلا بين المبدعين وتحقيق أحلامهم. (3)
مكنت تقنيات الذكاء الصناعي المستخدمة اليوم صناع السينما من تطوير وإنشاء مؤثرات بصرية لم تكن ممكنة من قبل باستخدام الطرق التقليدية، كما أصبحت مستخدمة على نطاق واسع في مهام التحرير التي كانت تستغرق وقتا طويلا في المعتاد مثل عمليات تصنيف الألوان والتعرف على الوجوه، وهو ما أدى إلى توفير الكثير من الوقت والجهد البشري. كما وُظِّفت في تنفيذ حركات الكاميرا المعقدة، وساعدت المخرجين على تخطيط اللقطات ووضع تصور مسبق لها واتخاذ قرارات بشأن زوايا الكاميرا والإضاءة قبل بدء التصوير الفعلي.
وأخيرا، يقدم تحليل البيانات للمنتجين تنبؤات حول استجابة الجمهور، وكيفية تحسين إستراتيجيات التسويق. ورغم أننا لم نشهد -حتى اللحظة- تحقق “كوابيس” صناعة سيناريوهات كاملة باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي، فإنه أصبح مُستخدما على نطاق واسع في تقديم تعديلات ومقترحات لتحسين السرد القصصي. (4)
الطريق للجحيم مفروش بالنيات الطيبة
بعيدا عن المخاوف من فقدان الوظائف، هناك العديد من الجوانب السلبية التي لا يمكن للعاملين في السينما ومتابعيها تجاهلها فيما يخص الاستخدام المتزايد للذكاء الاصطناعي، لعل أبرزها ما يتعلق بفقدان اللمسة الإنسانية للإبداع البشري، ربما تتمكن خوارزميات الذكاء الاصطناعي من إنشاء القصص ووضع تنبؤات دقيقة، لكنها لم تتمكن من فهم المشاعر الدقيقة للبشر، والطريقة التي يتفاعلون بها مع بعضهم بعضا، ويمكن أن يؤدي الاعتماد المتزايد عليها إلى افتقار الأعمال للعمق العاطفي والمنظور الإنساني، ويخرج لنا سردا أميل إلى السطحية.
تمتد المخاوف وصولا إلى توجهات الإنتاج، فمع كون صناعة الترفيه واحدة من أضخم الصناعات في العالم وأكثرها ربحية، فإن الاتجاه لإنتاج أفلام بميزانيات مخفضة عن طريق الذكاء الاصطناعي يجعل الأعمال ذات الميزانيات المرتفعة مغامرة محفوفة بالمخاطر، وهو ما يعني تركيز المنتجين على المزيد من الأفلام الرائجة ذات التكلفة المنخفضة، لحصد أعلى نسب من المشاهدات.
في الحقيقة، يحضر الذكاء الاصطناعي بقوة أيضا في عملية تحديد الأعمال الرائجة، وذلك عبر جمع وتحليل بيانات المشاهدين ومحاولة التنبؤ بما يمكن تقديمه من أجل جذبهم باستخدام خوارزميات خاصة. شهدت صناعة السينما عددا من الشركات الناشئة العاملة في هذا المجال، من بين أبرزها “Cinelytic”، وهي شركة ناشئة تقع في لوس أنجلوس، وتدير برنامجا مدعوما بالذكاء الاصطناعي يساعد صناع الأفلام على مراجعة قراراتهم ومعرفة تأثيرها على الأرباح، فمثلا يمكن أن تستبدل الخوارزمية ممثلا بآخر ومعرفة تأثير ذلك على شباك التذاكر، أو على مبيعات الأفلام في مناطق مختلفة حول العالم.
هناك أيضا شركة “ScriptBook” التي تقع في بلجيكا، ويمكن لبرمجياتها تقييم السيناريوهات والشخصيات، من أجل التنبؤ بتأثيرها على أرباح شباك التذاكر. بالمثل تعاونت شركة “فوكس” مع غوغل للتنبؤ بتفضيلات الجماهير قبيل عملية إنتاج الأفلام. (6) لكن رغم استخدام عدد كبير من الاستوديوهات لهذه الخوارزميات فإنهم ظلوا يتشككون بمدى فاعليتها، حتى جاءت “نتفليكس” لتقلب موازين السوق رأسا على عقب.
تمتلك “نتفليكس” قاعدة بيانات ضخمة لتفضيلات ملايين المستخدمين والمشاهدين من جميع أنحاء العالم. وتعمل هذه الخوارزميات بناء على عادات المشاهدة، وتقدم توصيات المشاهدة المخصصة. وتُقدَّر قيمة خوارزمية التوصية الخاصة بـ”نتفليكس” وحدها بنحو مليار دولار أميركي سنويا. (7) (8)
ببساطة تتعرف الخوارزميات على ما تهتم بمشاهدته، وبناء عليه تقدم لك المزيد من التوصيات المشابهة، ولا يقتصر الأمر على الفيلم التالي الذي توصي به، لكن الصورة المصغرة التي تراها للفيلم تختلف عن تلك التي تظهر لشخص آخر بناء على تفضيلات كلٍّ منكما، وكأن خدمات البث أصبحت تتعامل مع الأعمال الفنية السينمائية بالمقاييس نفسها التي تتعامل بها شبكات التواصل الاجتماعي مع متابعيها، وهكذا تزداد شعبية الأعمال الفنية الرديئة، وتتضرر السينما بوصفها فنا قائما على الإبداع في المقام الأول. (9)
فيلم مصنوع من أجل المشاهدات
ربما يُعَدُّ فيلم “جوستد” (Ghosted) الذي صدر في أبريل/نيسان الماضي من إنتاج منصة “أبل تي في” مثالا نموذجيا على كيفية تدخل الخوارزميات في صناعة الفن. فرغم كونه واحدا من أكثر الأعمال مشاهدة على المنصة، بعد أن تمكن من تحقيق ما يزيد على 328,500 مشاهدة في أول 48 ساعة من عرضه، فإنه لم يحقق النجاح النقدي أو حتى الجماهيري الموازي، حيث لم يحقق على موقع “IMDB” سوى تقييم 5.8 فقط، في حين لم يتجاوز تقييمه على موقع “روتن توميتوز” 26%.
“الفيلم نموذج للمحتوى الذي تمليه الخوارزمية في أسوأ حالاتها المخزية للصناعة، لقد جُمع بلا مبالاة وبلا حياة لدرجة أننا نميل إلى الاعتقاد بأنه أول فيلم أُنشئ بالكامل بواسطة الذكاء الاصطناعي”.
صحيفة الغارديان متحدثة عن فيلم “Ghosted”
كان مخرج الفيلم ديكستر فليتشر قد أشار في حديث له إلى بعض تدخلات الخوارزميات في عملية صناعة الفيلم، حيث أراد المخرج أن يفتتح الفيلم بمشهد طويل للبطلة آنا دي أرماس وهي تقود سيارتها عبر الجبال، لكن فريق الإنتاج في استوديوهات أبل رفض، لأنه طبقا “للبيانات” إذا لم تقع أحداث تجذب المشاهد خلال أول 30 ثانية من عرض الفيلم فسوف يوقفه المشاهدون.
استسلم فليتشر لما أملته عليه “البيانات” وصنع فيلما للاستهلاك الخفيف على منصات البث، وعلق قائلا إن معايير صناعة فيلم لشبكات البث المنزلية تختلف عن معايير صناعة الفيلم للعرض في صالات السينما، استسلم فليتشر لأنه -كما يقول- يحتاج إلى التأقلم من أجل الاحتفاظ بجمهوره.
دار فيلم “جوستد” في قالب يمزج بين الجاسوسية والإثارة والكوميديا الرومانسية، وهو يُمثِّل موجة من الأفلام المصممة بدقة من أجل إرضاء المشاهدين وفقا للبيانات والمقاييس المتاحة. فيلم جيد لمشاهدته أثناء الاسترخاء على الأريكة بعد يوم عمل طويل، مشاهد طريفة، ومناظر طبيعية خلابة وديكورات مميزة، وأحداث خاوية لا تحتاج إلى التأمل أو إعمال العقل، تنساها بمجرد أن تغلق الشاشة، تماما كالوجبات السريعة، تملأ معدتك لكنها لا تشبعك.(10)
تعرَّف الخوارزمية أو (algorithm) على أنها مجموعة من الخطوات المنطقية المتسلسلة اللازمة لحل مشكلة ما، وهي بهذا التعريف توفر لنا نوعا من الاستقرار ومخططا عمليا يساعدنا على استكشاف أكثر الطرق فاعلية لتحقيق أهداف محددة، وهو ما يساعدنا في استيعاب الفوضى الظاهرية للواقع واستكشاف مسارات جديدة. قد يكون استخدام الخوارزميات وتقنيات الذكاء الاصطناعي المتطورة في صناعة الأفلام أكثر فاعلية، من حيث التكلفة المادية، وربما يتيح لصناع السينما فرصة لصناعة المزيد من الأفلام، ولمعرفة ما يرغب المشاهد حقا في رؤيته، لكن ذلك من ناحية أخرى قد يكون عائقا أمام تقديم رؤى أكثر عمقا، وتجارب متفردة تنحاز للإبداع أكثر من تحقيق الأرباح.
————————————————————————————-
المصادر:
1- Impacts of ongoing writers’ strike
2- Deepfakes in Movies: The Future of Filmmaking – Metaroids
3- Runway AI: Tech Behind Everything Everywhere All At Once
4- The Dark Side of AI in Film: Risks and Ethical Concerns
5- How AI is Revolutionising the Film Industry
6- How 20th Century Fox uses ML to predict a movie audience
7- Netflix Recommendation Engine Worth $1 Billion Per Year
8- The entertainment industry turns to algorithms in search of blockbuster movies
9- Are streaming algorithms really damaging film? – BBC News
10- Ghosted is everything that is wrong with blockbusters right now | JOE is the voice of Irish people at home and abroad
اكتشاف المزيد من صحيفة 24 ساعة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.