يعيش زعيم حركة الصحوة الوطنية في جنوب أذربيجان “محمود علي شهرغاني” أيام مجد غير مسبوقة، فالرجل الذي تدعو حركته لانفصال الجزء الشمالي من إيران بالأغلبية الأذرية، والممنوع من دخول جمهورية أذربيجان منذ عام 2006؛ أُتيحت له الفرصة مؤخرا للظهور على القنوات التلفزيونية الأذربيجانية من منفاه في العاصمة الأميركية واشنطن، والدعوة بكل جرأة للإطاحة بالحكومة الإيرانية التي واجهت احتجاجات كبرى في شتى أنحاء البلاد، وذلك دون اعتبار لاتفاق باكو مع طهران على عدم إثارة مزاعم انفصالية بشأن إيران، ومنع التعامل مع شهرغاني الذي روَّج في إحدى مقابلاته التلفزيونية السابقة لأن “أذربيجان الكبرى ستكون موت نظام الملالي الشوفيني والبغيض”.
في الحقيقة، يُعَدُّ ظهور شهرغاني الإعلامي في أذربيجان مؤشرا قويا على ارتفاع حرارة التوتر بين إيران وأذربيجان، الناجم عن اتهام كلٍّ منهما الآخر بالعمل على تقويض سيادته والتحالف مع أعدائه. ومع انضمام أكبر ثلاثة مراكز سكانية أذرية في شمال غرب إيران، وهي تبريز وأورميا وأردبيل، للاحتجاجات المناهضة للحكومة في إيران نهاية العام الماضي، باتت طهران تنظر بقلق شديد إلى إثارة النعرات الانفصالية التي يتهم النظام الإيراني باكو بدعمها. غير أن مخاوف طهران تجاه أذربيجان لا ترتبط فقط بالمخاوف الانفصالية، لكنها تتعلق أيضا بالصراعات الأوسط على النفوذ في القوقاز التي تنخرط فيها طهران ضد تركيا من جانب، وفي مواجهة إسرائيل من جانب آخر.
إيران في جنوب القوقاز
منذ استقلالهما، خاضت الجمهوريتان السوفيتيان السابقتان أذربيجان وأرمينيا نزاعا مسلحا على إقليم “ناغورني قره باغ” الذي يسكنه الأرمن ويقع داخل حدود أذربيجان. ولكن عندما انهار الاتحاد السوفيتي عام 1991، انتزعت أرمينيا الإقليم وأصبح تحت سيادتها، ولم تتمكَّن أذربيجان من استعادته حتى حرب عام 2020. ومنذ اللحظات الأولى لهذا الصراع، حافظت الجارة الإيرانية على حيادها الرسمي تجاه الوضع في جنوب القوقاز، وإن مالت نسبيا تجاه أرمينيا في مقابل انحياز تركيا لأذربيجان.
ينطوي هذا الانحياز الإيراني لأرمينيا على مفارقة واضحة، لا سيَّما أن أذربيجان بلد ذو أغلبية شيعية، تماما مثل إيران. غير أن تلك الأغلبية كانت هي سبب تحفُّظ باكو في العلاقات مع طهران، فلطالما خشيت من تصدير نموذج الثورة الإسلامية الشيعية إلى حدودها. وعلى الجانب الآخر، كان لدى طهران مخاوف من تعبئة المجتمع الأذري ضد نظام الثورة الإسلامية، حيث يمكن للقومية الأذربيجانية مع الغضب القائم بسبب الأزمة الاجتماعية والاقتصادية أن تخلق وضعا متفجرا في المحافظات الشمالية الإيرانية.
ساهمت الحرب الأخيرة بين أذربيجان وأرمينيا في مفاقمة مخاوف طهران، التي انتابها قلق كبير من تغيُّر ميزان القوى من حولها، حيث تشترك إيران في حدود طولها 750 كيلومترا مع أذربيجان ومنطقة “ناخشيوان” (جيب أذربيجاني منفصل عن بقية أذربيجان وملاصق لتركيا وأرمينيا). وقد شنَّت أذربيجان هجمات على أهداف في جنوب أرمينيا في عام 2022 بهدف السيطرة على ممر زانغِزور، الذي يقع على الحدود بين إيران وأرمينيا، ويربط بين جمهورية أذربيجان وإقليم ناخشيوان. وقد اعتبرت طهران تلك الخطوة جزءا من محاولة تطويقها، لا سيَّما أن الممر العابر للحدود الجنوبية لأرمينيا يوفر لتركيا وصولا مباشرا إلى آسيا الوسطى، ومن ثمَّ يُقلل من نفوذ طهران.
لطالما واصلت طهران تطوير تحالفها الجيوسياسي الطويل مع أرمينيا بوصفه أداة أساسية في جهودها لموازنة النفوذ التركي والإسرائيلي في المنطقة. ورغم أن حدودها مع أرمينيا قصيرة، فإنها حدود ذات أهمية إستراتيجية قصوى، إذ إنها شريان حياة لثلاثة ملايين أرميني عُزِلَت بلادهم غير الساحلية من قِبَل أذربيجان وتركيا، ومن ثم منحت طهران ورقة مهمة في طاولة المفاوضات بمنطقة القوقاز. ولم يقتصر الأمر على دعم أرمينيا خلال حرب 2020 والسماح لروسيا باستخدام مجال إيران الجوي لإرسال إمدادات عسكرية إلى يريفان، بل شمل زيادة المشاريع التجارية الإيرانية ومشاريع الطاقة والاتصالات مع حليفها الأرميني. ففي الأول من نوفمبر/تشرين الثاني 2022، وقَّع البلدان اتفاقا لتمديد شروط صفقة “الغاز مقابل الكهرباء”، التي تنص على استيراد الغاز الإيراني وتصدير الكهرباء إلى أرمينيا. كما كثَّف “فيلق الحرس الثوري الإسلامي” الإيراني تعاونه العسكري مع أرمينيا.
لكن طهران أدركت بعد نهاية تلك الحرب أنها بحاجة إلى بعض النفوذ في أذربيجان، وبالفعل سعت للحضور في باكو سياسيا وعسكريا رغم التوترات. وقد ركزت طهران على توسيع التعاون الاقتصادي ودفع خطط إنشاء خطوط نقل إقليمية شاملة، مثل ممر السكك الحديدية بين الشمال والجنوب الذي يربط الهند بروسيا عبر إيران وأذربيجان. وفي مارس/آذار 2022 وقَّعت أذربيجان وإيران اتفاقا لإنشاء خطوط جديدة للسكك الحديدية والطرق السريعة وإمدادات الطاقة التي تربط الأراضي الجنوبية من قره باغ التي استولت عليها أذربيجان بمقاطعة ناخشيوان. وينص الاتفاق على أن طول الطريق السريع الجديد سيكون 55 كيلومترا ويبدأ من زنكيلان، وهو طريق بديل عن “ممر زانغِزور”.
ومع ذلك، بقيت التوترات الجيوسياسية الكامنة عاملا مؤثرا عرقل محاولات التقارب الإيراني مع أذربيجان نتيجة الاتهامات المتبادلة بين البلدين. وقد بلغت هذه التوترات ذروتها مع اتهام أذربيجان إيران بتجنيد نحو 19 رجلا لتنفيذ أعمال غير محددة من شأنها أن “تنتهك مصالح أمن الدولة”. وبالتزامن، تحوَّلت إيران بدورها مؤخرا نحو الدعم المفتوح لأرمينيا بعد نهجها التقليدي في التوازن الدبلوماسي في القوقاز، وأوعزت إلى وسائل الإعلام الحكومية الناطقة باللغة الأذرية بتهديد أذربيجان ضمنيا عبر برامجها، كما اتهمت أذربيجان بالوقوف وراء هجوم وقع في 26 أكتوبر/تشرين الأول على ضريح شيعي في مدينة شيراز الإيرانية أسفر عن مقتل 15 شخصا.
إسرائيل على أعتاب إيران
قبل مُضي عام على حرب عام 2020، تفاجأت أذربيجان بوحدات مدرعة ومدفعية وطائرات مُسيَّرة ومروحيات قتالية على حدودها الشمالية الغربية، ولم تكن تلك سوى واحدة من أكبر المناورات العسكرية الإيرانية منذ عقود. وقد بدأت القصة عندما فرضت باكو ضريبة على الشاحنات الإيرانية التي تحمل بضائع إلى أرمينيا، ومن ثمَّ أقدمت إيران على استعراض محلي لقواتها العسكرية سرعان ما كرَّرته في أكتوبر/تشرين الأول 2022، وشمل هذه المرة جسر نهر “آراس” الحدودي، في إشارة إلى أن طهران لن تتسامح مع أي تغيير في الأوضاع الحدودية تسعى إليه باكو. ووفقا لمعهد دراسات الحرب الأميركي، أرادت إيران أيضا أن تقول إنها لن تقبل بوجود “الاستخبارات الإسرائيلية” على حدودها، لا سيَّما مع توالي أنباء عن وجود نشاط استخباراتي إسرائيلي في القوقاز يستخدم أذربيجان قاعدة له. ولم تكن مصادفة إذن أن قررت إيران تسمية المناورات بـ”فاتحي خيبر”.
يعود القلق الإيراني من علاقة أذربيجان بإسرائيل إلى انهيار الاتحاد السوفيتي، فمنذ استقلت أذربيجان وأرمينيا عام 1990، تواصلت إسرائيل مع البلدين لفتح باب العلاقات. وقد استجابت أذربيجان وطورت علاقة إستراتيجية سبقت بوقت طويل علاقات دولة الاحتلال مع معظم الدول العربية والإسلامية. ومقابل ذلك لم تبادر أرمينيا بتطوير علاقاتها مع إسرائيل، واختارت إقامة علاقة وثيقة مع روسيا التي أنشأت قاعدتين عسكريتين على أراضيها، وكذلك دشنت علاقة قوية مع إيران. وبمرور الوقت، أصبحت أذربيجان الغنية بالنفط تزود إسرائيل بحصة كبيرة من احتياجاتها النفطية، وتحوَّلت إلى مُشترٍ للتكنولوجيا العسكرية الإسرائيلية. وباتت إسرائيل بدورها ثاني أكبر مورد للأسلحة إلى أذربيجان بعد روسيا طيلة العقد الماضي، حيث زوَّدتها في حرب عام 2020 بطائرات مُسيَّرة متطورة وأسلحة أخرى.
لطالما تحدَّثت إيران عن أذربيجان بوصفها قاعدة للتجسس الإسرائيلي عليها من خلال أدوات مثل طائرات المراقبة المُسيَّرة أو عبر جهاز أمن الدولة الأذربيجاني الذي تعتبره إيران على صلة وثيقة بالاستخبارات الإسرائيلية. وقد أشار الإيرانيون صراحة إلى أن إسرائيل سرقت في عام 2018 أعدادا كبيرة من الملفات النووية الحساسة. وبعد حرب عام 2020، عادت طهران للحديث عن الوجود الإسرائيلي في القوقاز، فقال العميد “كيومارس حيدري”: “إن إيران حصلت على معلومات تفيد بأن قوات النظام الإسرائيلي غير الشرعي كانت موجودة في إحدى الدول المتحاربة (أذربيجان)، ولديها خطط لتغيير الوضع الجيوسياسي الإقليمي”، بل واتهمت إيران إسرائيل باستخدام وجودها في أذربيجان لاغتيال علماء إيران النوويين.
مع إصرار إسرائيل على الاقتراب من حدود طهران ردا على تعزيز الأخيرة حضورها في سوريا ولبنان وغزة، يبدو أن الحرب الأوكرانية فتحت بابا جديدا في الصراع بين البلدين. فبعدما أجبرت الخسائر واسعة النطاق روسيا على إعادة نشر بعض قواتها من سوريا وجنوب القوقاز على الجبهة الأوكرانية، بل واللجوء إلى السلاح الإيراني، لم تعُد روسيا مهتمة بتقييد حضور إيران في سوريا كما فعلت سابقا أثناء تفاهماتها مع إسرائيل. وبالنظر إلى انحياز إسرائيل لأوكرانيا والتحالف الغربي، فإن تعزيز التحالف الروسي-الإيراني يعني أن دور أذربيجان بوصفها حليفا رئيسيا للدولة العبرية يزداد أهمية.
صراع النفوذ التركي الإيراني
لا تقتصر مخاوف إيران في القوقاز على إسرائيل وحدها. ففي 21 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، افتتح وزير الخارجية الإيراني “حسين أمير عبد اللهيان” قنصلية جديدة في مدينة “كابان” الأرمينية قُرب ممر زانغِزور. وفي رسالة عاجلة تزامنت مع زيارة الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” إلى منطقة زنكيلان الأذربيجانية، أكَّدت إيران أن تحالفها مع أرمينيا ثابت ويتجه نحو مزيد من التطوير، وأنها جادة في جميع خطواتها العسكرية والدبلوماسية والسياسية للحفاظ على الوضع الإقليمي الراهن في المنطقة ورفض تغيير ميزان القوى الإقليمي.
شهدت حرب عام 2020 بروز الدور التركي في القوقاز أكثر من ذي قبل، حيث ظهر دعم أنقرة المفتوح عسكريا وسياسيا لأذربيجان ضد أرمينيا، ذات العلاقات التاريخية المتوترة بتركيا منذ نحو 100 عام. ومع إصرار أنقرة على تزويد أذربيجان بالأسلحة الحديثة بعد انتهاء الحرب وتدريب جنودها، تفاقمت مخاوف طهران، التي تنظر إلى تركيا بوصفها عضوا في الناتو وحليفا للغرب، وتارة أخرى تتوجَّس من تعزيز القومية التركية عبر الاستفادة من اللغة والتاريخ والثقافة المشتركة للتواصل مع سكان شمال إيران من الأذريين.
يأتي ذلك في وقت ترى فيه طهران نفسها معزولة بسبب تقييد العقوبات الدولية لدورها بصفتها مركزا للتجارة الإقليمية، بينما تتحرك تركيا كي تجعل نفسها مركزا تجاريا عبر تحفيز “مبادرة الممر الشرقي الغربي الأوسط عبر بحر قزوين”، التي تشير إليها أنقرة أيضا باسم “الممر الأوسط”، وذلك لربط تركيا بالقوقاز عبر جورجيا وأذربيجان، ثم عبر وصلة بحرية تعبر بحر قزوين بآسيا الوسطى والصين، وهو مشروع لاقى رواجا بعد الحرب الأوكرانية بين بعض صناع القرار في الصين وأوروبا لأنه يتجاوز روسيا وإيران معا.
علاوة على ذلك، وفي أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا، شعر الإيرانيون بالقلق من أن تؤدي العقوبات الغربية ضد روسيا إلى إعاقة قدرة الكرملين عن العمل ضامنا لاستقرار الدولة الأرمينية ولتوازن القوى في القوقاز، إذ تلعب موسكو نفسها دورا محوريا في المنطقة من خلال مؤسسات مثل منظمة معاهدة الأمن الجماعي (CSTO) التي بموجبها يتمركز نحو ألفَيْ جندي حفظ سلام روسي في ناغورني قره باغ. وفي الوقت نفسه، يؤمن الإيرانيون أن الانخفاض المحتمل للنفوذ الروسي في جنوب القوقاز بسبب تحول التركيز الروسي نحو أوكرانيا قد يجعل الولايات المتحدة تحل محل الروس في القوقاز أو يؤدي إلى زيادة الوجود التركي وربما الإسرائيلي.
في وقت تنتقد فيه القيادات الإيرانية تركيز الرئيس الأذربيجاني “إلهام علييف” على “توحيد جغرافيا العالم التركي” عبر ممر زانغِزور (ما يوسع نفوذ تركيا)، يمتلك الإيرانيون شواهد على أن إسرائيل تلعب لعبتها أيضا. فقد نشر السفير الإسرائيلي في أذربيجان في وقت سابق تغريدة له وهو يقرأ كتابا بعنوان “أساطير تبريز السحرية”، وبالنظر إلى أن تبريز عاصمة محافظة أذربيجان الإيرانية، فإن العديد من الإيرانيين اعتبروا تلك البادرة بمنزلة تأييد للأجندة الانفصالية لمحافظة أذربيجان.
ستكشف الأيام القادمة ما إذا كانت إيران ستواصل التصعيد المدروس ضد أذربيجان لضمان تراجعها عن مشروع ممر زانغِزور الذي ترى فيه امتدادا للنفوذ التركي من حولها، أم أنها ستسعى للوصول إلى تهدئة أو حل وسط ربما بوساطة روسيا المعنية هي الأخرى بعدم انجرار الأطراف في القوقاز إلى تصعيد شامل. ولا يُستبعَد اندلاع مواجهة عسكرية أوسع من حرب 2020 إذا ما أصرَّت باكو وحلفاؤها على الممر دون أخذ مخاوف إيران في الاعتبار، لا سيَّما مع تعقُّد المفاوضات بين أذربيجان وأرمينيا بين الفينة والأخرى. أما مواجهة إسرائيل ووجودها المتزايد في القوقاز، فلا يزال غير واضح إلى أي مدى يمكن لطهران صياغة سياسة دفاعية وأمنية لمواجهته في ظل انشغالها الكبير بالوضع الداخلي وبموقعها في سوريا.
اكتشاف المزيد من صحيفة 24 ساعة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.