سبق لي أن ألقيت محاضرتَين، الأولى حول لندن في رواية “أوليفر تويست”، وقد كانت في ندوة “مادام لا فابر” الخاصة بالحقبة الفكتورية؛ والأخرى حول بعض الخصائص اللغوية عند “إدغار ألان بو” (Edgar Allan Poe)، وقد كانت في ندوة “مادام سُونترو” الأستاذة المتخصصة في الآداب الأميركية.
ورغم ما لقيه العرضان من استحسان أعطاني ثقة في النفس، فإن هذا لم يمنع التوجس من التسرب إلى دواخلي، فتجدني أَتَسمَّع صوتا يُلح علي أنّ العرضين السابقين قد أُلقيا وسط مجموعة من الطلبة الأقران، وأن العرض الذي أنوي إلقاءه في ندوة “شعرية القرن الـ20” سيكون أمام جمهور مختلط، فيه أستاذ الرياضيات وعالم النفس وكتّاب وشعراء مرموقون وصحفيون وزائرون مارّون لا أعرفهم.
هذا على أني كنت أجد في لقائي الأسبوعي مع “وايت” ما يدفع عني هذا الضرب من التوجس. فقد كان يردد بأن لفظة “ندوة” (Seminar) تنحدر من الأصل اللاتيني الذي يفيد معاني “البذر” و”التلقيح”؛ وبهذا كان يُذكّر الباحثين الحاضرين بأنهم مدعوون، كل من جهة تخصصه وميولاته البحثية وخلفياته الفكرية والثقافية، للمشاركة في “تلقيح الألباب”، لا لتلقي علم جاهز مصدره الأستاذ.
وقد سبق أن أحالني شخصيا على كتاب “بول فايرآبند” (Paul Fayeraben) حول “المنهجية العلمية” (Against Method)، هذا الكتاب الذي كان له فضل كبير في تحريري من الخوف من الوقوع في الخطأ المنهجي. فـجوهر فكرة كتاب “فايرآبند” هو أن المناهج العلمية تتعدد بتعدد العلماء، هذا في العلوم الحقة، فما بالك بالعلوم الإنسانية. وقد شعرت وأنا أقرأ هذا الكتاب بأن قيمة الباحث تكمن في قدرته على فتح فضاء بحثي خاص اعتمادا على منهجية خاصة. فإذا كان لكل الباحثين نقائص كثيرة، فإن نقطة الكمال عند الباحث تكمن في وعيه بتفرده وخصوصية نظرته إلى الأشياء.
لم يستغرب الحاضرون من موقف “وايت”، إذ كانوا يعرفون موقفه من الشعر وإنكاره على الشعراء “كلامهم الفارغ” و”تضخم الذات الصغيرة عندهم”، وغير ذلك من العبارات التي كان يبدع في نحتها تعبيرا عن رفضه لما يقترف باسم الشعر من تفاهة
كنت أشعر وأنا أجلس في مكتبة معهد العالم العربي، محاطا بكتب التراث من كل جانب، أو وأنا أجلس في مكتبة مركز “جورج بومبيدو” محاطا بمراجع غربية، أني بصدد تركيب شيء لم يسبقني إلى تركيبه أحد غيري. لم يكن مصدر هذا الشعور هو الاغترار بالنفس والاعتداد بها، بل هو إدراك تفرد الإنسان وتميزه عن كل إنسان آخر، هذا الإدراك الذي به يصير الباحث باحثا، وإلا فسيظل مقلدا قاصرا، يطلب أجوبة جاهزة لأسئلة جديدة كما هو عليه الحال في بنية البحث التقليدية عندنا.
لفظة “شَعَر” تفيد كذلك معنيين، شَعَر بمعنى الشعور في الوجود وبه، وشَعَر بمعنى وجد الكلام اللائق للتعبير عن الإحساس بهذا الشعور
قضيت 3 أسابيع، أواصل الليل بالنهار، لأنهي العرض الذي أُنيط بي تقديمه. وقد وجدت نفسي أستدعي شذرات من التراث العربي والإسلامي تصب في تسليط الضوء على خصائص العقل الشعري، هذا العقل الشغوف بفكرة العالم، المشدود إلى الوجود الطبيعي المعطى، كما يعرّفه “وايت”.
أذكر أني استفتحت الكلام عن العقل الشعري الجائل بمستلمحة كان لها من الأثر على نفوس الحاضرين أكثر مما كنت أتوقع. ذكرت أن من أسماء العقل في اللغة العربية اسم “الحِجا”، وأن في هذا الاسم إقرار بأن إحدى وظائف العقل في هذه اللغة هي “الحَجّ” نحو “الحُجة”، ثم أضفت ممازحا أنه ليس من الصدفة أن يكون اسمي “حاجي”، بل أنا أحق من الجميع بالانتساب إلى شعرية القرن الـ20.
ما كان لي أن أقف عند لفظة الحجا وعلاقتها بالحج والحجة لو أني لم أقرأ عند “وايت” أن اللغات الصينية واليابانية تقر للعقل وظيفة “الجولان”، بحيث أن الصورة التي ترمز إلى الإنسان أو الشخص في هذه اللغات هي عبارة عن رأس وضعت فوق ساقين (人). مفاد هذا الكلام أن الإنسان لا يفكر في لغته وتراثه إلا بمهماز خارجي؛ فالاحتكاك مع الآخر يُوَلِّد عند الباحث وعيا خاصا بالذات. والحاصل أن وقوفي عند كل ما وقفت عنده من معاني مبثوثة في التراث ما كان ليكون لولا التفاعل مع فكر الآخر، هذا الفكر الذي يجدد وعينا بذواتنا.
وكان من بين ما ذكرته كذلك أن لفظة “بيت” في اللغة العربية تحيل على معنيين اثنين، معنى البيت الشعري، ومعنى الخيمة التي يسكنها البدوي، وقد أحلت على بيت الجاحظ الذي جاء فيه:
والحسن يظهر في شيئين رونقه.. بيتٍ من الشِّعر أو بيتٍ من الشَّعَر
وأن لفظة “شَعَر” تفيد كذلك معنيين، شَعَر بمعنى الشعور في الوجود وبه، وشَعَر بمعنى وجد الكلام اللائق للتعبير عن الإحساس بهذا الشعور. وكان المقصد بهذا الكلام هو التأكيد على أن في اللغة العربية مزج دقيق بين الشِّعري والوجودي. ثم تحدثت عن القصيدة وارتباطها بمعاني القصد الثلاث: القصد أي المقصود من الكلام أو المعنى؛ ثم القصد بمعنى اتباع وجهة من الوجهات؛ ثم القصد بمعنى الاقتصاد. فالشاعر قاصد والقاصد مقتصد، يقصد معنى ويسلك أقصر الطرق لبلوغه. وكان في هذا دليل آخر على ارتباط الشعر في المنظومة الفكرية العربية بمعاني “الجولان” الفكري.
وقفت عند تعريف ابن خلدون للشعر بوصفه “الكلام البليغ المبني على الاستعارة والأوصاف، المفصل بأجزاء متفقة في الوزن والروي، مستقل كل جزء منها في غرضه ومقصده عما قبله وبعده، الجاري على أساليب العرب المخصوصة به” وكان رأيي في هذا التعريف أنه لا يُفهَم إلا على ضوء نظرية ابن خلدون في العمران.
فابن خلدون حين يشترط في الشعر أن يجري على أساليب العرب المخصوصة به، إنما يقصد أن يظل الشعر مرتبطا بالحس الوجودي الذي تشكل في مراحل العمران الأولى قبل اختلاط العرب بالعجم، أو بأقوام ذي باع طويل في الحضارة وفنون القول الفلسفي.
وقد كان ابن خلدون على علم بأن المفاضلة بين الشعراء كانت تتم على أساس التمييز بين من يقول الشعر على السليقة، أي من كان شعره مرتبطا بأساليب العرب الأولى، وبين من يقول الشعر تصنعا، ويغلب عليه طابع التفلسف أو التأثر بالمقولات العقلية المصطنعة التي تحجب العقل عن الوجود في الطبيعة.
وبعد ذلك تخلصتُ للحديث عن موقف الإسلام من الشعر، وكيف أن القرآن الكريم أخرج الثقافة العربية من طور “البطولة الشعرية الوجودية”، أو (Ontological heroism) بحسب تعبير “وايت”، نحو أفق آخر، حيث أنكر على الشعراء التيه في الوجود، والقول الذي لا يرتبط بعمل، واستثنى منهم من آمنوا.
قلت إن الشعر قبل الإسلام كان سباحة عقلية في الكون لا تقف عند حد، إلا أنه مع الإسلام ومع الإيمان يتحول إلى ضرب من “التسبيح” (Glorification). وذكرت كيف أن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ربط بين الشعر والحكمة في قوله “إن من الشعر لحكمة”. ثم ذكرت ما روي عنه صلى الله عليه وسلم من حديث يقول “لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا خير له من أن يمتلئ شعرا”.
عند هذه النقطة بالذات تململت القاعة بعد صمت طويل وسُمِع لزميلي “آلان” الباريسي قهقهة استهجان، غير أن “وايت” نظر باتجاهه وقال “إنه على حق”!. لم يستغرب الحاضرون من موقف “وايت”، ذلك أنهم كانوا يعرفون موقفه من الشعر وإنكاره على الشعراء “كلامهم الفارغ” و”تضخم الذات الصغيرة عندهم”، وغير ذلك من العبارات التي كان يبدع في نحتها تعبيرا عن رفضه لما يقترف باسم الشعر من تفاهة. والشعر عنده حس جمالي لا تنقطع صلاته بالأرض، والمعرفة والعلم والحكمة.
كنت أحضر المحاضرات التي كان “وايت” يُسجّلها لإذاعة السوربون مباشرة كل يوم خميس على الساعة الواحدة، وكانت محاضرات مفتوحة للعموم، حيث كان يُقدِّم لأهم الشعراء الذين ارتقوا بالممارسة الشعرية إلى مستوى تسمية الأشياء بوضوح، ويأتي على رأسهم الشاعر “والت ويتمان” (Walt Whitman) السالك الباحث عن “الإحساس الآدمي المفقود” في هذا الوجود. وقد ترسخت عندي قناعة مفادها أن كثيرا من الشعر يدخل صاحبه في حكم المخمور الذي ينساق وراء جرس الكلمات ليقول ما لا يعلم.
كان من جميل الصدف وأنا أُحَضّر للعرض أن أعثر على كلمات للإمام الشافعي لم أتردد في الإحالة عليها للتدليل على وجود وعي يسري في التراث العربي الإسلامي بأن في اختلاط الكلام المنظوم ما يفضي إلى إفشاء السر المكتوم، أي نطق الناظم بما لا يريد النطق به. لم يمر كلامي هذا دون أن يستوقف اهتمام “وايت”؛ وكيف لا يهتم بكلام يربط بين الشعر والغموض، وهو الذي قضى عمره يبحث عن الخروج من مضايق “الوضوح الرياضي” الذي تحدث عنه “ديكارت”، لا باتجاه “الغموض الشعري”، بل باتجاه الوضوح الذي ينتجه الشعر بوصفه لغة الشعور بالوجود، لا بوصفه لغة النفوس المريضة.
سررت كثيرا لتفاعل الحضور مع ما ورد في العرض من أفكار؛ وقد سرّني أكثر أن “وايت” أثنى على الجهد الذي بذلته في تحضيره وثَمَّن ما جاء فيه من أفكار قيمة تفتح فضاء للتأمل والتفكر، وتدعو لمزيد من الانفتاح على الثقافة العربية والإسلامية.
وبقدر ما كان الآخرون مدعوون إلى الانفتاح على الثقافة العربية الإسلامية، كنت وأنا أحضر “شعرية القرن الـ20” أكتشف حجم جهلي بالثقافة الغربية، هذه الثقافة التي كان احتكاكي بها يُولد عندي وعيا وسلوكا جديدين.
(يتبع)
اكتشاف المزيد من صحيفة 24 ساعة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.