الشاعر نوري الجراح: لا كرامة لقصيدة خرساء ولا لشاعر هارب من الحقيقة | ثقافة


يقربنا الشاعر السوري نوري الجراح في هذا الحوار مع الجزيرة نت من عالمه الشعري وأسئلة الذاكرة وعطب اللحظة الراهنة. وبقدر ما يطرح الحوار من أجوبة، فإنه يثير أسئلة لا تقف عند حدود اللغة وتشتبك مع ألم الحروب وأمل الانعتاق من كل أساور الفاجعة، مشكلا لحظة معرفية لسرد ذاكرة شاعر يطوع اللغة لتنكشف معها هوياتنا الطازجة بالسفر والرحلة في أدغال الإنسان العربي بعدما طوحت به الأمكنة في مساحات القلق الوجودي.

ويعد نوري الجراح من التجارب الشعرية اللماحة في ذاكرة وحاضر شعرنا العربي المعاصر لما يملكه من قدرة على جعل الشعر والحياة صنوين للتعبير عما يشكل رافدا من روافد المقاومة.

للشاعر مجموعات شعرية عدة منها: “قارب إلى ليسبوس” ميلانو 2016، و”نهر على صليب” بيروت 2018، و”لا حرب في طروادة” ميلانو 2019، و”الأفعوان الحجري” ميلانو 2022. ونشرت أعماله الشعرية الكاملة عن “المؤسسة العربية للدراسات والنشر” في 3 مجلدات ما بين 2008 و2022.

بالإضافة إلى ذلك، صدر عدد من الكتب النقدية حول شعره وتجربته الشعرية. وله العديد من الترجمات لشعره في عدة لغات، وصدرت له مؤخرا عن دار النشر الإيطالية الكبرى “مونتودوري” ترجمة لكتابه “الخروج من شرق المتوسط”، من عمل المستشرقة فرانشيسكا ماريا كوراو، وعن دار “أكت سود” في باريس ترجمة للمختارات “ابتسامة النائم” التي نال عنها مؤخرا جائزة ماكس جاكوب الشعرية العريقة، وجرى الاحتفال بفوزه في بيت الأدباء الفرنسيين.

وللجراح عدد مهم من المؤلفات في أدب الرحلة، وقضايا فكرية في اللغات: العربية، الفارسية، التركية، والفرنسية، وهو يقيم في لندن منذ 1986، ويشرف منذ 22 عاما على جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة، ويرأس منذ 8 سنوات تحرير مجلة “الجديد” الشهرية الثقافية اللندنية.

بالإضافة إلى أنه مؤسس ومشارك في تأسيس عدد من المجلات الثقافية أبرزها “الناقد” لندن 1988-1992، “الكاتبة” لندن 1993-1995، “القصيدة” قبرص 1999، “الرحلة” لندن 2005، “دمشق” لندن 2012-2013، “الجديد” لندن 2015 وحتى اليوم. وقد لعبت هذه المجلات أدوارا مؤثرة في الحياة الشعرية والأدبية العربية، وربطت بين ما يحدث في المهاجر والمنافي العربية وما يجري في الجغرافيات الثقافية العربية.

وإلى نص الحوار:

ما من تعبير عن الوجدان الإنساني أقوى من الشعر.. ينفرد في كونه الأقدر على مسّ تلك الطاقة الشعورية الغامضة الغائرة فينا، وإيقاظ مكنونات عاطفية، ومشاعر وذكريات نائمة، بينما هو يتحف المخيلة بصور مدهشة وأخرى عجيبة تنافس الواقع بعاديته ورخاوته، أو بقسوته وشراسته.

  • إلى أي مدى يمكن للشعر في بلاغته المعاصرة أن يفكك خطابات الحرب ومآسي الإنسان المفكك هوياتيًّا؟ هل الشعر هو روح العصر أم أن تأثيراته لا تتجاوز حدود الإبداع في اللغة؟

يريد هذا السؤال أن يحيط بالشعر من غير جانبٍ، بدءا من لغته، وحدود طاقته الجمالية والتعبيرية، وقدرته على إيصال الرسائل، ومكانته في جوار الثقافات الشعرية الأخرى، وجدارته في التعبير عن روح العصر.

ومضمون هذا وحده يحتاج أطروحة.. دعيني أتحدث على هدي السؤال، وخارج محدداته.

لنسلم أولا أن ما من تعبير عن الوجدان الإنساني أقوى منه في الشعر، فهو يخاطب الأعماق، تشترك معه الموسيقى في شيء من هذا، لكن الشعر ينفرد في كونه الأقدر على مسّ تلك الطاقة الشعورية الغامضة الغائرة فينا، وإيقاظ مكنونات عاطفية، ومشاعر وذكريات نائمة، بينما هو يتحف المخيلة بصور مدهشة وأخرى عجيبة تنافس الواقع بعاديته ورخاوته، أو بقسوته وشراسته، وتتغلب عليه بتشكيل عالم موازٍ عامر بالمدهش الطريف والجميل الغريب، وبكل ما هو جديد ومفاجئ.

نظرة على التاريخ الثقافي للإنسان تضع مراكب الشعراء في طليعة الأرمادا الإنسانية (الأسطول العظيم)، الشعراء هم أنبياء العصور، كانوا وما زالوا كذلك، رغم كل أوهام النقد وتخرصات النقاد الذين نشطوا على المنقلب بين زمني الحداثة وما بعدها، أي منذ مطالع القرن العشرين وحتى اليوم، في تعريف الشعر باختلاق أوصاف ومصطلحات وعلامات وحدود آسرة، والشعر لا يطيق أن يؤسر أو يلجم بها، ليس لعدم جدارة المحاولة النقدية، ولكن ببساطة لأن الشعر في كينونته العميقة لغز وسحر وجمال عصي على التفسير.

ليس في نظري وحدي، وليس في نظر الشعراء وحدهم، سيبقى الشعر روح كل عصر، ما دام الضارب عميقا في أرض الوجدان، ومستشرف آفاق لامرئية، لا تؤتى ولا تتكشف إلا بالبصيرة. معجزة الشعر تتجلى في أنه يستطيع أن يكون روح الأمم الناهضة، والأمم التائهة على حد سواء. لكونه مرتبطا بالخبرات الشعورية الأولى للبشر منذ فجر الحضارة، من تنويمة الطفل إلى ترنيمة المعبد، مرورا بتهويمات الرعاة ومخاطبات الصائدين لطرائدهم ولطالما ارتبط فن الشعر بالسحر.

للقصيدة قدرة النبوءة لأن شاعرها هو الرائي المتمرد على الزمن الصغير وشرطته وأشراطه، يخطو بقصيدته في الأرض المرئية وروحه تحلق في فضاء المستحيل.

المسألة الجوهرية التي ما برحت تشغلني، لا سيما في سنوات الدم، يُظَهِّرها تساؤل عما إذا كان الشاعر المنفعل بالآلام الجماعية الكبرى بوصفها آلامه، سوف يعثر على اللغة التي سيكتب بها قصيدته في زمن المأساة، لا ليصور، ويسجل، ويؤرخ، ولكن ليهز شجرة الرعب، ويخلق الأمثولة المضادة، مستبدلا أبطال الإمبراطوريات، بالوجوه المغيبة للإنسان، بالأماني المجهضة والأحلام القتيلة والصوت الغائب للضحية التي يطردها المؤرخون إلى عماء البياض. هنا يكمن التحدي. وهو تحد لغوي أولا.

قصيدتي راحت تتغير على نحو دراماتيكي منذ جرت في نهر بردى (الدمشقي) دماء شبان المدن والأرياف ولم تتوقف طوال عقد وسنتين.. في العقد الأخير بات من المستحيل على الكلمات أن لا تبتل بالدم، أو أن تدير القصيدة ظهرها لنسمة الهواء المشبعة بدخان الحرائق، والأجساد اليافعة المتوارية في الأكفان

منذ أن جرت في نهر بردى (في دمشق) دماء شبان المدن والأرياف ولم تتوقف عن الجريان طوال عقد وسنتين من الجريمة الجماعية بلا عقاب، وصوتي لم يعد لي وحدي، وقصيدتي راحت تتغير على نحو دراماتيكي. يمكنني أن أشير إلى أن شعري في العقد الأخير اتخذ منحى طغى عليه البعد الملحمي بصورة أكبر من ذي قبل.

وقد لاحظ ذلك نقاد منهم خلدون الشمعة الذي وصفه أحد الأعمال بـ”الملحمة المضادة”، وفي قراءة مفيد نجم “القصيدة المعلقة” خارج المكان، أو قصيدة المنفى. ولا تبتعد عن ذلك قراءات أخرى، في العقد الأخير بات من المستحيل على الكلمات أن لا تبتل بالدم، أو أن تدير القصيدة ظهرها لنسمة الهواء المشبعة بدخان الحرائق، والأجساد اليافعة المتوارية في الأكفان. لا كرامة للقصيدة الخرساء، ولا للشاعر الهارب من الحقيقة بلسان مراوغ أو لسان مقطوع.

هل يعقل أن يظل الشاعر نرسيسا (أسطورة إغريقية تشير للنرجسية) هائما وراء صورته في زمن الهلاك الجماعي، وهل من الجدارة أن يظل سعيدا في كونه سيد المتاهة الوجودية، وفلسفته الأثيرة العكوف على ذاته بوصفها الكينونة المكتفية بذاتها، فهي المبتدأ والخبر!

لا بد من شيء جديد، لغة جديدة، ففي زمن رواج الجريمة والمجرمين بلا عقاب، زمن الخيانات الكبرى للدساتير والفلسفات والأديان المبادئ والقيم، واحتقار الضمير، زمن اغتصاب الحقوق بصكوك شرعية، وتحول الدول إلى مليشيات، وتحول رؤسائها إلى قتلة مأجورين وتجار مخدرات ومستشارين لمحتلي بلادهم، زمن تعملق الصغار، وانتقام الأوباش من الكرام، والعار من الشرف، زمن معسكرات الاعتقال وخيام اللجوء، ومراكب الهاربين من الجوع والطغيان، زمن الأكاذيب المشروعة، زمن غلبة الصور على المعاني، وتفضيل الشيء على الروح.. في زمن كهذا لا يمكن للقصيدة أن تظل تكتب كما كتبت من قبل، لا بد من لغة جديدة لشعرنا، لغة أخرى، لغة شجاعة في مواجهة الدراما الإنسانية في صورها القصوى.

الملحمي، في ما يتأتى لي من صيغ وتراكيب هو خياري الشعري الراهن، حيث يمكن لصوت الشاعر أن يتشظى وتتعدد الأصوات في قصديته.

الشاعر ليس مجرد صائد فراشات، ولكنه الصانع الماهر وقد قيضت له موهبته القائمة على ثقافة رفيعة خوض مغامرة مع الكلمات تمكنه من استخراج فراشة القصيدة من يرقة اللغة

  • هل الشعر في زمننا هو الشعر في كل الأزمنة أو أن حداثته لم تعد تخترق ذلك الزمني بفعل سطوة التقنية وتعليب الإنسان المعاصر في كبسولات للترويض على نحو كتابة الفاجعة؟

يطيب لبعض النقاد أن يعتبروا المحو بالمعنى الفلسفي للكلمة ندا ونقيضا طبيعيا للكتابة، وربما الوجه الآخر لها، أو هو امتداد لها في الزمن والأشياء. لكن أليس الموت بدوره وجها آخر للحياة، وجها ملغزا كما هو لغز البياض، الذي لا حبر ولا كتابة من دونه؟! معجزة الشعر تكمن في قدرته الاستثنائية على الاختراق، اختراق الحواجز، بما في ذلك تلك المنيعة التي تقيمها اللغة نفسها بتراكيبها القارة.

إصابة الأعمق والأبعد ذلك يحدث عندما ينجح الشاعر في ابتكار لغة جديدة، لغة لا تخص سواه. الشاعر ليس مجرد صائد فراشات، ولكنه الصانع الماهر وقد قيضت له موهبته القائمة على ثقافة رفيعة خوض مغامرة مع الكلمات تمكنه من استخراج فراشة القصيدة من يرقة اللغة. يغسل الشاعر الكلمات من ماضيها، ويمنحها حياة جديدة، يخرجها من حياديتها الجامدة في القاموس إلى ديناميتها في القصيدة. ولا بأس أن أكرر هنا: إن الشعراء يأتون من المستقبل. لذلك هم لا يحتاجون إلى التفكير به، ولكن إلى خوض غمار الحاضر والامتلاء به بوصفه بؤرة الزمن كله.

رؤية الشاعر في كل عصر مرتبطة باستكناه اللحظة واستشراف أبعادها، ما يعني الانتماء إلى روح العصر. رؤى الشاعر مرتبطة بالضرورة، بمخيلته الخصبة، وبطبيعة عمله مع الكلمات، بحواسه، ومشاعره، وحدسه العميق الموصول بوجدانه اليقظ، وبروحه المرهفة التي تشربت الجمال من كل منهل، فهو صوفي الأزمنة العاشق الساهر على فكرة الحب، واللطائف الإنسانية، وجمال الوجود.

وعندما تهدد قوى الشر الوجود الإنساني، ويعم الظلام فالشاعر هو حامل المصباح وصوت الضمير، والمقاتل الأول في خندق الإنسانية. و”أنا الشاعر” كونية بالضرورة فهي تستشعر كل نأمة (خفية ضعيفة) في الوجود، وتمنحها ماهية تتفوق على ماهيتها الأولى.

أما موضوعات الشاعر فهي ما يبعث ألوان قوس قزح في غابة الشعر.

  • اختارت الصادِحة (السوبرانو) السورية لبانة القنطار قصائد لك وغنتها، كيف تنظر إلى هذه المحاولة؟ وهل يمكن تطوير هذا اللقاء بينكما إلى عمل يشكل إضافة نوعية، ويقدم نموذجا يجدد في علاقة الشعر بالموسيقى والصوت؟

الحقيقة أن هذه التجربة بدأت مع اختيار السيدة لبانة مقطعا من شعري في “قارب إلى ليسبوس” وغنته بصوتها الأوبرالي الفخم، وكانت النتيجة أغنية أطلقت عليها “يا شام”، قدمتها في حفلاتها في أميركا وأوروبا. في ما بعد بدأ تعاون بيني وبينها على قصائد أخرى، وتشاركنا معا في السويد العام الماضي أمسية شعرية موسيقية. لا يمكنني أن أحكم على هذه التجربة، الموسيقيون أقدر مني على ذلك، لكنني أعتبر صوت لبانة وقدراتها الغنائية وثقافتها الرفيعة كفيلة بأن تجعل من هذه التجربة التي لم تسجل بعد بصورة احترافية عملا ذا قيمة جمالية عالية.

  • يكتب نوري الجراح قصيدة مطعّمة بالتساؤلات الفلسفية والأبعاد الملحميّة إلى جانب شعريتها، وهذا ما يميز التجربة ويجعلها متفرّدة، ماذا يمكن أن تقول عن حيواتك الشعرية؟

كتابتي للشعر مرت بعدد من المراحل، ولكوني تطرقت في مقالاتي عن الشعر مؤخرا إلى شعري الأحدث، سأتوقف أكثر عند المرحلة المبكرة، في دمشق، بوصفها طفولة التجربة، وفي الطفولة نكتسب جل ميزاتنا ككائنات. ككل مبتدئ كتبت باحثا عن صوت، قرأت وكتبت بشغف من اكتشف مدينة السحر، في تلك الفترة كتبت كثيرا ونشرت قليلا، متلمسا طريقي على هدي من تاريخ الشعر والشعراء، ومن قصائد سحرت بها. لم أنشر من شعر تلك المرحلة إلا القليل مما ضمه كتابي “الصبي”.

قرأت الشعر لأضيف إلى دمي دم الشعراء. قرأت لا لأحفظ ما قرأت، ولكن لأنسى، لأتشرب الصور والخيالات والحواس والأفكار التي في الشعر، وأنسى الموضوعات والصيغ الخاصة التي تميز شاعرا عن شاعر. رحت استكشف روح الشعر وأهجس بالكلمات كممسوس.

في ما بعد أدركت أن شعري في تلك المرحلة المبكرة اتسم بميل وجودي، رومانسي في لغة نحت نحو البساطة ولم تخل من الرمز، وبدا مغمورا بالدهشة من الأشياء، في قصيدة ذات تراكيب أحيانا ما تكون عابثة لاعبة، تميزها نزعة طفولية متمردة. هذه شعرية حياة مبكرة، كلفتني مغادرتها، إلى مواقع جديدة في الكتابة سنوات، تخللها بحث دؤوب في اللغة وتأمل في الوجود وانهماك في قضايا الصراع الإنساني لأجل العدالة والحرية في عالم مختل الموازين.

السنوات الست الفاصلة بين كتابي الأول والثاني سافرت بين بيروت وقبرص واليونان وعرفت حياتي خلالها إقامات قلقة ومتقطعة هنا وهناك، تخللتها مغادرتي منطقة المتوسط بصورة نهائية، للإقامة في لندن، حيث نشر كتابي الشعري الثاني “مجاراة الصوت” وشكل منعطفا أساسيا في كتابتي للشعر وفي فهمي له، فقد طورت ممارستي للكتابة وقراءاتي النقدية والجمالية المكثفة وعكوفي خصوصا على قراءة الفلسفة والميثولوجيا إلى جانب المسرح وعلم النفس، والغوص في كتب التراث الصوفي العربي، لتشكل مجتمعة مصادر أساسية أسهمت في تطوير وعي بالشعر وعلاقتي باللغة على نحو ما كان يمكن أن يكون على ما هو عليه لولا تلك القراءات، إلى جانب متابعة ما يكتب وينشر من شعر عربي معاصر في الصحف والدوريات لمجايلي (لمعاصريه) من الشعراء ولبعض من سبقوهم من الأحياء، انطلاقا من عملي كمحرر أدبي.

نحن نُعَنوِن قصائدنا، وهذا السلوك هو الممارسة الأكثر قمعية التي يقوم بها الشاعر بحق القصيدة، فكيف إذن بتعريفها!

أنظر في مكتبتي وابتسم، كل كتاب فيها ينبهني إلى حقيقة أن ما من شاعر يخرج من نسيج ذاته، هذه خرافة، شعري يدين بالضرورة لقراءاتي. كل شغف لنا بالكتب والكلمات، بشعر أحببناه ترك فينا أثرا من نوع ما. وهذا لا يخالف حقيقة أن شعر الشاعر في كل مراحل تجربته يحمل شيئا بليغا من سماتٍ ظهرت في شعره المبكر.

أما الحياة الحقيقية للشاعر فهي حياته المزدوجة، إقامته في عالمين متوازيين، ومتصارعين. ولو لم يستطع الشاعر صياغة وجوده في هذه المعادلة المؤلمة والمكلفة بين الواقع وثرائه والمخيلة وما يتموج فيها، ويجعل من قصيدته المولود اللغوي لهذا الزواج الغريب بين العالمين، فلن يستطيع أن يكون شاعرا.

أخيرا، نحن نُعَنوِن قصائدنا، وهذا السلوك هو الممارسة الأكثر قمعية التي يقوم بها الشاعر بحق القصيدة، فكيف إذن بتعريفها!

يمكنني أن أتحدث عن قصيدتي، ولكن ليس من باب شرحها على سبيل كشف أسرارها. شرح القصيدة من قبل شاعرها أشبه بقيام حبيب بتعرية حبيبته والشروع في وصفها للآخرين! هذا تطلب شديد الغرابة!

أكثر الشعراء الجيدين هم أولئك الذين لم ينالوا الجوائز، وسعدت بجائزة “ماكس جاكوب” مرتين، مرة عندما أمكنني أن أهدي الجائزة لطفلين أدار العالم لهما ظهره هما لاجئ سوري ولاجئ فلسطيني، ومرة عندما لمحت شعورا غامرا بالسعادة في عيون من أحب

  • حزتَ حديثًا على جائزة “ماكس جاكوب” الفرنسيّة التي تعدّ من الجوائز المهمة والتي تمنح لشاعر مميز بتجربته. ماذا تعني لك هذه الجائزة وما رأيك بهذه التجربة؟

أرجو أن لا أبدو صادما إذ أقول إن الجوائز الأدبية على رغم كل ما يحيط ببعضها من ضجيج وجدل بالمعنيين الإيجابي والسلبي لا يمكن أن تعتبر ضرورية أو حاسمة في حياة الأدباء والشعراء.

أكثر الشعراء الجيدين هم أولئك الذين لم ينالوا الجوائز. وشعرهم اليوم أبقى من شعر كثرة من حملة الجوائز ومطارديها، لذلك أكتفي بأنني سعدت بالجائزة مرتين، مرة عندما أمكنني أن أهدي الجائزة لطفلين أدار العالم لهما ظهره هما لاجئ سوري ولاجئ فلسطيني، ومرة عندما لمحت شعورا غامرا بالسعادة في عيون من أحب.

الطريف أني بعد حفل الجائزة أضعت جواز سفري، وعشت في باريس مشردا لأيام جريا وراء وثيقة سفر.

  • بين كتابك “الخروج من شرق المتوسط” ولوحات الفنان التشكيلي السوري أسعد فرزات تجاور وتوطيد للعلاقة بين الشعر والرسم، وانتفاء للحدود بين الأجناس، فيبدو جليًّا هذا التفاعل الفني والتلاحم اللغوي والبصري. إلى أي مدى يمكن للوحة أن تسهم في تشكيل وعي القارئ بجمالية القصيدة وبشعريتها لتفتح عليها باب التأويل؟

لا يمكن للوحة فنية أن تترجم قصيدة إلى لغة التشكيل، أو أن تقوم بتأويل فني من نوع ما، من دون أن تتحول إلى نوع من “الألستريشن” (رسم إيضاحي). وليس هذا ما سعى إليه أسعد فرزات في معرضه بباريس المستوحى من القصيدة المذكورة، لوعي منه أن ليس من واجب اللوحة أن تؤدي هذه الوظيفة.

العمل الفني الذي قام به فرزات مغامرة جمالية موازية ولدتها شرارة تلقي القصيدة والانفعال بها وربما عيش أجوائها زمنا، لكن، في تقديري، أن الفنان ما أن غمس ريشته في الألوان وشرع في مواجهة بياض قماشته، حتى مضى في رحلة خاصة به، رحلة داخلية مع الذات، كانت القصيدة محرضا للفنان في استعادة تلك الصور الأليمة لمراكب السوريين المبحرة في المتوسط، في خروج جماعي تراجيدي هربا من المحرقة السورية، ومن كوارث الطغيان والاحتلالات، فالعمل الفني هنا ليس ثمرة استلهام لقصيدة وكفى، ولكنه ثمرة تلاقي وعي شاعر وفنان بفداحة المأساة التي عصفت بسوريا والمشرق، وحولت السوريين إلى راكبي أمواج، وطعام لوحوش الحضارة وأسماك البحار.

  • أخيرا، ما الذي تتوسمه في الشاعر، في ظل هذه الأوقات الغريبة في تهاونها بحق الإنسان والعصيبة على الجميع؟

في الأزمنة المظلمة وفي ذروة لحظات اليأس، على الشاعر أن يقبض على جمرة الأمل، ألا يداخله شك في أن المستقبل للقصيدة، أما الطغاة فمصائرهم مكتوبة في التاريخ.




اكتشاف المزيد من صحيفة 24 ساعة

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

Previous post هل تربح الحرب أم تتسبب في كارثة؟ مناظرات أمريكية حول إرسال القنابل العنقودية إلى أوكرانيا
Next post مصرع وزير هيئة شؤون الأسرى الفلسطيني قدري أبو بكر في حادث سير

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اكتشاف المزيد من صحيفة 24 ساعة

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading