مرّ عقد من الزمان على رواية الكاتب الماليزي تان توان إنغ الثانية “حديقة ضباب المساء”، التي خطفت اهتمام القراء في جميع أنحاء العالم ونال عنها “جائزة مان آسيان الأدبية” (Man Asian Literary Prize)، ليكون أول ماليزي يفوز بالجائزة التي كانت ترعاها “مان بوكر” الإنجليزية.
صنفت الرواية كواحدة من روائع أدب الخيال التاريخي وواحدة من أمتع روايات الصراعات السياسية الحديثة، وتطوف بين التناقضات التي تشمل التذكر والنسيان، السلام والحرب، الفن والعنف، الحب والكره وغيرها، وتبدو الرواية في واحدة من وجوهها كقصة حب تتضمن الكثير من المعلومات التاريخية حول ماليزيا خاصة في حقبة الاستعمار البريطاني.
وكانت رواية الكاتب الماليزي الأولى “هدية المطر” تدور كذلك حول حقبة الحرب والغزو الياباني لماليزيا كذلك، حيث وضعت البلاد خلال حقبة الاحتلال الياباني (منذ نهاية 1941 حتى نهاية الحرب العالمية الثانية 1945)، تحت إدارة عسكرية للجيش الإمبراطوري الياباني، وكان الأدب مدفوعا بشكل أساسي لخدمة المصالح الإمبراطورية، ولم يُكتب الكثير من الأعمال الروائية أو القصصية خلال هذه الفترة، ولم يبقَ كذلك سوى القليل من أدب الثلاثينيات المالاوي مثل أعمال إسحاق حاج محمد وعبد الرحيم كاجاي.
“بيت الأبواب”
وأخيرًا -بعد 10 أعوام- نشر المؤلف الماليزي عمله الجديد (الثالث) “بيت الأبواب” (The House of Doors) الذي يستكشف قيم الحب والخيانة والأخلاق، وأقر -بابتسامة حزينة في مكالمة فيديو لمراسلة الجزيرة الإنجليزية من مكان دراسته في جنوب أفريقيا- بأن عمله “كان بطيئًا”.
كان يرتدي بذلة ويجلس على مكتب، وبدا مظهره مثل المحامي (مهنته السابقة)، أكثر من كونه كاتبًا، لكن الرفوف على الجدران خلفه كانت مليئة بالكتب، ضحك وهو يقول “هناك الكثير من الكذب على هذه الأرض”.
كان أحد أسباب بطء التقدم في روايته الجديدة هو الزوبعة التي أثارها ترشح عمله السابق لجائزة بوكر (البريطانية الدولية).
ولكن مع انتهاء ارتباطات الترويج لروايته، وعودته للعمل، أصبح من الواضح أن نواة المشروع -الذي أصبح روايته الثالثة- كان أكثر معاناةً مما توقع.
عاد الروائي الماليزي إلى حبكة تدور حول شخصية الثوري القومي سون يات سين (1866-1925)، رئيس أول حكومة مؤقتة في الصين بعد الإطاحة بأسرة تشينغ، الذي قضى وقتًا في جزيرة بينانغ (شمال غرب ماليزيا) في أوائل القرن العشرين ليجمع الأموال من مقره في شارع أرمينيان الواقع بالمركز التاريخي المدرج حاليًا في قائمة التراث العالمي بجورج تاون (الماليزية).
يقول تان، الذي ولد في بينانغ الماليزية وعاش والداه في شارع أرمينيان في الخمسينيات “اعتقدت أنني لست مضطرًا لإجراء الكثير من الأبحاث حول هذا الموضوع”.
لكن ذلك لم يكن صحيحا “ولعدة أسباب، لم يكن الأمر ناجحًا”، معترفا بأنه كانت هناك أوقات لم يتمكن فيها من فتح جهاز الحاسوب المحمول الخاص به حيث “لم أكن أعرف ماذا سأفعل”.
في مرحلة ما، فكر تان في التخلي عن فكرة الرواية تمامًا، ويشرح “القصة لم تكن مجدية. لم تكن الشخصيات تتمتع بالحيوية. كان هيكل الرواية خاطئًا”.
احتاج الأمر لتدخل وكيل أعماله -الذي اقترح على الناشر فرانسيس بيكمور إلقاء نظرة على المخطوطة- لاستعادة ثقة تان فيما كتبه.
يتذكر تان رد الناشر الذي “أحب ذلك العمل على الفور”، وعمل الرجلان معًا على صياغة العمل بشكل أفضل من خلال معالجة الهيكل وتحريك بعض الفصول.
فصول تاريخ مؤلم
لا يثير الدهشة كون عمل تان نابعا من شغفه بالتاريخ، وماضي ماليزيا المؤلم؛ فبينما هناك الكثير من النقاش حول الخلط بين الخيال والواقع، يرى تان أن الرواية التاريخية هي نقطة انطلاق للتحقيق والنقاش.
ويقول: “الرواية لا تعظك أو تخدعك، وإنما تحسم قرارك بالطريقة التي تريد أن تفسر بها الماضي. إذا شعرت بالضيق أو عدم الارتياح أو الغضب بشأن شيء ما، فمن الجيد معرفة المزيد عن هذا الحدث بعينه”.
حصلت ماليزيا على استقلالها في عام 1957، تاركة وراءها ما يقرب من 450 عامًا من الحكم الاستعماري، في البداية من قبل البرتغاليين، ثم الهولنديين، وأخيرا جاء البريطانيون.
أقام الإنجليز مزارع في الغابات الكثيفة، وحولوا البلاد إلى أكبر مصدر للمطاط في العالم، وطوروا صناعة قصدير مزدهرة، مع جحافل من المهاجرين من أصل هندي وصيني ليحافظوا على الاقتصاد الاستعماري.
ساعدت سياسة “فرِّق تسد” البريطانيين في الحفاظ على سيطرتهم على السكان المتنوعين بشكل متزايد في البلاد بينما عاش المستعمرون المغتربون عالما منفصلا، محاولين إنشاء “إنجلترا صغيرة” في المناطق الاستوائية، بنواديها وكنائسها وهياكلها الاجتماعية المتضخمة.
على سبيل المثال، لم يُسمح للنساء بالدخول إلى الحانة في نادي سيلانغور في قلب كوالالمبور، كما كان الحال في بريطانيا آنذاك، وكان ذلك النادي مكان اللقاء المفضل لنخبة الحقبة الاستعمارية.
النادي لا يزال قائما إلى اليوم، على الرغم من أن الميدان الذي أطلق عليه البريطانيون اسم “بادانغ” يُعرف الآن باسم “داتاران ميرديكا” أو ميدان الاستقلال، فقد تغيرت الكثير من المعالم منذ ذلك الحين.
ويقول الروائي الماليزي إنه مهتم بمدى اختلاف تصورات البريطانيين في ذلك الوقت.
فضيحة استعمارية
تدور أحداث “بيت الأبواب” في عشرينيات القرن الماضي، ووجد تان أن العنصر الذي سيجعل الكتاب ينجح هو شخصية حقيقية لروائي وكاتب مسرحي إنجليزي سومرست موغام، محاصرا بزواج غير سعيد، وصحة سيئة، وتجارة خاسرة، وشهادته الخيالية على جريمة السيدة إيثيل براود لوك التي حوكمت وأدينت بجريمة قتل في قضية فضائحية أثارت فضول مجتمع المستعمرين (البريطاني) المحافظ بالمدينة.
وتوجد في الرواية شخصيات حقيقية مثل موغام وسان وبرود لوك إلى جانب الشخصيات الخيالية -وعلى وجه الخصوص ليزلي هاملين، الزوجة البريطانية المغتربة المولودة في بينانغ والتي تكشف العديد من الأسرار في الرواية وتساعد في تجميع خيوط السرد معًا.
كما هو الحال مع روايتيه السابقتين، فإن “بيت الأبواب” تستحضر بشكل كبير الزمان والمكان، ويقول تان إنه “شعر بالارتياح” من التعليقات المبكرة على الرواية.
قضى تان الأشهر القليلة الماضية كواحد من 5 حكام هذا العام لجائزة بوكر الدولية، التي مُنحت لأفضل عمل روائي مترجم إلى الإنجليزية ومنشور في المملكة المتحدة وأيرلندا.
يقول تان عن عملية التحكيم إنها “أمر مدهش”. “اكتشفت الكثير من الكتب التي اعتقدت أنها ستحظى بنجاح باهر.. يجب أن تكون هذه الكتب معروفة على نطاق أوسع”.
ويأمل تان ألا تمر 10 سنوات قبل أن تُنشر روايته الرابعة في العالم، لكنه يتساءل كيف يتمكن بعض الكتاب من إصدار كتاب كل عام أو عامين، ويقول “بعض الكتب تحتاج إلى وقت”.
اكتشاف المزيد من صحيفة 24 ساعة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.