انقلب السحر على الساحر.. لماذا قرر جيفري هينتون الأب الروحي للذكاء الاصطناعي الاستقالة الآن؟


كان الأمر كما لو أن تعويذة سحرية قد أُلقيت على هذا العالم لإيقاظ حقبة جديدة من الاحتمالات، فمع كل سطر من التعليمات البرمجية الخاصة به، يبث الذكاء الاصطناعي الحياة في الآلات، ويمنحها القدرة على التعلم والتفكير وربما الإبداع، ناقلا العالم اليوم إلى زمان الآلات الذكية الذي ربما لم يتوقعه أحد قبل عقود.

 

يغربل الذكاء الاصطناعي بلا كلل مجموعات هائلة من البيانات، ويكشف عن الأنماط والرؤى التي كانت مخبأة سابقا، ومثل الكيميائي السحري الذي يُحوِّل المعادن الأساسية إلى ذهب، حوَّل الذكاء الاصطناعي المعلومات الأولية إلى معرفة قيّمة ووجَّه البشرية نحو آفاق جديدة من الاكتشاف. يُعَدُّ هذا انتصارا كبيرا حُقَّ لرجل مثل “جيفري هينتون”، الأب الروحي للذكاء الاصطناعي، أن يفخر به، كيف لا وهو الذي قضى حياته يُطوِّر خوارزميات الذكاء الاصطناعي والتعلم العميق. لكن هينتون اختار أن يسلك طريقا مغايرا بدلا من ذلك، متنازلا عن منصبه في غوغل، ومتفرغا للتحذير والتوعية من مخاطر الذكاء الاصطناعي الذي شارك في وضع أُسسه الأولى يوما ما.

 

صبي الساحر

Artificial intelligence pioneer Geoffrey Hinton speaks at the Thomson Reuters Financial and Risk Summit in Toronto, December 4, 2017. REUTERS/Mark Blinch
اتخذ الدكتور هينتون قرارا بالغ الأهمية بقطع العلاقات مع غوغل، مسكنه لأكثر من عقد، من أجل التعبير بلا خجل عن مخاوفه بشأن المخاطر التي يُشكِّلها الذكاء الاصطناعي. (رويترز)

حسنا، لنبدأ هذه المرة بالسياق. عجّ العام الماضي (2022) بالضجيج حول العملات المشفرة، وويب 3، والرموز غير القابلة للاستبدال (NFTs)، وغيرها من الصيحات التقنية التي أثارت الكثير من الجدل لكنها لم تقدم سوى القليل من النفع من وجهة نظر الكثيرين، لكن ما حدث في شهر نوفمبر/تشرين الثاني أخذ سيناريو هذه القصة إلى منحى مختلف تماما.

 

فمع إطلاق روبوت المحادثة “شات جي بي تي” تغير كل شيء نحو الأفضل كما يزعم البعض، وأحدث ثورة في طريقة عملنا. وتبعه بعد قليل أدوات أخرى للذكاء الاصطناعي، كان الكثير منها من تطوير شركة “أوبن إيه آي آبي” (OpenAI API). لا يمكن إنكار أن أدوات الذكاء الاصطناعي تلك تعمل على تغيير الطريقة التي نعمل بها في العديد من الصناعات. (1)

 

يمكن لأدوات مثل “Durable” و”Mixo” و”Butternut” إنشاء مواقع الويب في ثوانٍ، ويمكن لاستوديوهات مثل “وندر ديناميكس” (Wonder Dynamics)، القائمة على الذكاء الاصطناعي، أن تنتج شخصيات مولدة عن طريق الحاسوب (CG) تنبض بالحياة بطريقة سحرية من خلال تآزر الرسوم المتحركة والإضاءة والتأليف في مشهد حي.

مشكلة "شات جي بي تي"هي أنه لا يمتلك إلا البيانات المتاحة، بغض النظر عن صحة وجودة النظرية العلمية.
إن لم يساعدك “شات جي بي تي” في إنجاز جزء كبير من المهمات، فعلى الأغلب سينظم لك العمل جزئيا، وإذا أتقنت مدخلاتك أو الأوامر التي تعطيها له (prompts) فلربما أنهى لك بعض المهام بشكل كامل وتلقائي. (شترستوك)

علاوة على ذلك، نجحت الشركات الكبرى مثل “كانفا” و”أدوبي” و”مايكروسوفت إيدج” في دمج الذكاء الاصطناعي في أدواتها، مما يوفر بُعدا جديدا تماما للطريقة التي نعمل بها. على المنوال نفسه، قدم مستودع “غيتهاب” (GitHub) مساعدا يعمل بالذكاء الاصطناعي، الذي يمكن أن يساعدك بشكل مستقل في إنجاز مهامك إذا كنت تعمل بأحد مجالات علوم الحاسب.

 

الحقيقة أن الكثير من المبرمجين والناشطين استخدموا “شات جي بي تي”، كما انتشرت على منصات التواصل الاجتماعي وبالأخص يوتيوب طرق متعددة لاستخدام “شات جي بي تي” في الحصول على الأموال، أو استخدامه لأتمتة العمل (Automation) وجعل الذكاء الاصطناعي يعمل مساعدك الشخصي، الذي إن لم يساعدك في إنجاز جزء كبير من المهمات، فعلى الأغلب سينظم لك العمل جزئيا، وإذا أتقنت مدخلاتك أو الأوامر التي تعطيها له (prompts) فلربما أنهى لك بعض المهام بشكل كامل وتلقائي. (2)

 

مَن لا يريد مساعدا شخصيا ينجز بعض أعماله بشكل كامل، أليس هذا مريحا؟ على الأغلب أنك تتذكر غسالات الملابس القديمة، كيف كانت متعبة وكم كانت عملية غسيل الملابس شاقة، أما الآن مع التحديثات المستمرة فقد توصلنا إلى أكثر من إصدار من غسالات الملابس الأوتوماتيكية التي تقوم بالعمل وحدها على أكمل وجه، فكرة الأوتوماتيكية في تسيير المهام اليومية ساعدت الإنسان بشكل كبير، الآن لنتخيل أن المساعد الشخصي السابق ذكره يعمل بشكل أوتوماتيكي، إنه أمر مدهش ومرعب في الوقت نفسه!

 

حتى “شات جي بي تي” نفسه قرر أن يمضي قُدما في طريق الأتمتة، عن طريق “أوتو جي بي تي” (Auto GPT) الذي ينسج الحكايات ويؤلف سيمفونيات النثر ويرقص بالأفكار، كل ذلك بأمر من عقلك الفضولي. “أوتو جي بي تي” -الذي ربما تكون قد شاهدته ينفجر على وسائل التواصل الاجتماعي مؤخرا- هو تطبيق مفتوح المصدر أُنشِئ بواسطة مطور الألعاب “توران بروس ريتشارد” الذي يستخدم نماذج إنشاء النصوص من “OpenAI”، لذا فهو بشكل أساسي يعتمد على “GPT-3.5” و”GPT-4″، للعمل “بشكل مستقل”، أي إنه يمكنه أن يصدر الأوامر لنفسه.

أي شيء يمكنك أن تطلبه من “شات جي بي تي”، مثل كتابة الكود لأحد التطبيقات وكتابة بريد إلكتروني، سيفعله “أوتو جي بي تي” بالتأكيد، لكن الأكثر تميزا هو أن بإمكانك أن تطلب منه إنجاز مهام أكثر تقدما، مع تدخل قليل منك، لو أمرته بإنشاء مشروع فسيقوم التطبيق بإنتاج كل ما هو ضروري لإكمال المهمة بنفسه، بدءا بالخطة المبدئية إلى كيفية الترويج، من بداية المشروع حتى نهايته بدون تدخل يُذكر منك.

 

كما يكمن الجانب الرائع لـ”أوتو جي بي تي” في تكامله السلس مع عدد لا يحصى من المنصات الرقمية، بما في ذلك متصفحات الويب وأدوات تحرير النصوص. على سبيل المثال، عند تزويده بأمر مثل “كيفية توسيع نشاط بيع الملابس الخاص بي”، فإن التطبيق الأوتوماتيكي يُظهِر القدرة على إنشاء مخطط ترويجي واقعي إلى حدٍّ ما، بل وحتى إنشاء وجود بدائي لمؤسستك عبر الإنترنت.

ولكن قبل أن يأخذك الحماس للتجربة الجديدة، دعنا نذكرك أن استخدام “أوتو جي بي تي” ليس بسهولة “شات جي بي تي” نفسها. ورغم أنه متاح على منصة “غيتهاب” (GitHub) مفتوحة المصدر، فإن إعدادها يتطلب القليل من الخبرة الفنية. للاستفادة من قدراته، يجب أولا تثبيته في بيئة تطوير مثل “دوكر” (Docker)، ويلزم وجود مفتاح “API” من “OpenAI”، وهو مما يتطلب وجود حساب مدفوع. ومع ذلك، فإن المستخدمين الأوائل يهتمون بإمكانيات التطبيق. (3)

 

يمكن أن يُعزى الانتشار الشديد لـ”أوتو جي بي تي” رغم صعوبة استخدامه نسبيا إلى قدراته والآثار العميقة التي ربما يحملها في الأيام القادمة. إن قدرة “أوتو جي بي تي” على تحقيق المهام بشكل مستقل جعلت البعض يعتقدون أنه قادر على إنجاز أعمال معقدة تشبه العمليات المعرفية للعقل البشري، وبالتالي هناك تكهنات كثيرة تؤكد أن “أوتو جي بي تي” بمنزلة نذير شؤم مبكر للذكاء الاصطناعي العام (AGI).

 

لا يزال الذكاء الاصطناعي العام مفهوما نظريا إلى حدٍّ كبير، لكنه يدور حول قدرة الذكاء الاصطناعي على تنفيذ أي مهمة معرفية ينجزها البشر (4). إن ظهور أنظمة الذكاء الاصطناعي القادرة على العمل ببراعة مع الحد الأدنى من الإشراف البشري يمتلك القدرة على إحداث ثورة في مشهد العمل، مما يبشر بتحول قد يجعل العديد من الأدوار (وبالتالي الوظائف) البشرية في مهب الريح في المستقبل غير البعيد. وهذا الكلام ليس مجرد ذعر، ولكنه قريب وواقعي إلى درجة أنه دفع الأب الروحي للذكاء الاصطناعي “جيفري هينتون” إلى التنازل عن منصبه في غوغل للتحذير والتوعية عن مخاطر الذكاء الاصطناعي.

 

انقلاب السحر

يحظى هينتون بالتبجيل باعتباره رائدا في عالم الذكاء الاصطناعي، أو كما يحبون مناداته “أبو الذكاء الاصطناعي”، ففي عام 2012، وداخل قاعات جامعة تورنتو، أنتج الدكتور هينتون، برفقة اثنين من تلاميذه الأكاديميين، أعجوبة تكنولوجية كانت بمنزلة حجر الأساس الفكري لأنظمة الذكاء الاصطناعي التي يعتمد عليها عمالقة صناعة التكنولوجيا، ويعتبرون أنها لا غنى عنها لمشاريعهم المستقبلية. (5)

 

الغريب أن الدكتور هنتون قرر التخلي عما صنعته يداه، والانضمام إلى جوقة متزايدة من المعارضين الذين يُحذِّرون من المسار الخطير الذي تتبعه هذه الشركات ذاتها. لقد أثار سعيهم الدؤوب وراء المنتجات المتجذرة في الذكاء الاصطناعي التوليدي (Generative AI)، وهي التكنولوجيا ذاتها التي تبث الحياة في روبوتات الدردشة المنتشرة في كل مكان مثل “شات جي بي تي”، مخاوف ودعوة إلى التدقيق.

 

اتخذ الدكتور هينتون قرارا بالغ الأهمية بقطع العلاقات مع غوغل، مسكنه لأكثر من عقد، من أجل التعبير بلا خجل عن مخاوفه بشأن المخاطر التي يُشكِّلها الذكاء الاصطناعي. (6) وعلى النقيض من المناصرين المتحمسين لثورة الذكاء الاصطناعي، الذين يُبشِّرون باختراقات كبرى في مجالات متنوعة تمتد من الأبحاث الصيدلانية إلى النماذج التعليمية، يسري تيار خفي من القلق في أوصال بعض المطلعين على تفاصيل الصناعة، مع هواجس أن يكونوا قد أطلقوا العنان لوحش يمكن أن يدمر العالم.

بالفعل، أثبت الذكاء الاصطناعي التوليدي قدرته على العمل أداةً للترويج للمعلومات المضللة، فضلا عن تهديده المتوقع لملايين الوظائف في المستقبل القريب. لكن المخاوف لا تقف عند هذا الحد، فبعض المتشائمين في أوساط التقنية، ومنهم هنتون، قلقون من أنه قد يُمثِّل خطرا على مستقبل البشرية نفسها. لذا، بعد أن أصدرت شركة “OpenAI” الناشئة في سان فرانسيسكو إصدارا جديدا من “شات جي بي تي” في مارس/آذار، وقَّع أكثر من 1000 من قادة التكنولوجيا والباحثين خطابا مفتوحا يدعو إلى إيقاف تطوير أنظمة جديدة للذكاء الاصطناعي لمدة 6 أشهر، لأنها تُشكِّل “مخاطر جسيمة على المجتمع والإنسانية”. (7)

 

أين يكمن موطن التهديد بالتحديد؟ حسنا، غالبا ما تكتسب هذه الأنظمة أنماطا سلوكية غير متوقعة من خلال تحليل البيانات الشامل، هنا تنشأ مشكلة بشكل خاص عندما يسمح الأفراد والشركات للذكاء الاصطناعي ليس فقط بإنشاء الأكواد الخاصة بهم، ولكن أيضا بتنفيذها. ساعتها يمكن أن تصبح أمور مثل الروبوتات القاتلة أمرا شائعا. (6)

 

في حديثه لصحيفة “نيويورك تايمز”، قارن هينتون بين خطر الذكاء الاصطناعي وبين الأسلحة النووية، لأن هذه التقنيات الجديدة، وعلى عكس التقنيات النووية، لن تكون خبيئة مختبرات الحكومات، ولكنها ستكون في متناول الجميع. إلى جانب ذلك، يشك هينتون في الطريقة التي تُشرعن بها هذه التقنيات التي لا تزال في مهدها دون دراسة كافية للعواقب، وعقَّب في إحدى المقابلات معه أنه حتى لو توقفت الولايات المتحدة عن تطوير هذه التقنيات فلن تتوقف الصين، ما يعني أن الخطر سوف يستمر في التصاعد، وأن هناك مَن يجب أن يتولى التصدي له (8). ويبدو أن هذه هي المهمة التي قرر الرجل أن يُكرِّس ما تبقى من حياته لأجلها.

————————————————————————————–

المصادر

1- Introducing ChatGPT

2- What is Auto-GPT? Everything to know about the next powerful AI tool

3- AutoGPT

4- DeepMind and Google: the battle to control artificial intelligence

5- A New Way for Machines to See, Taking Shape in Toronto

6- ‘The Godfather of A.I.’ Leaves Google and Warns of Danger Ahead

7- Elon Musk and Others Call for Pause on A.I., Citing ‘Profound Risks to Society’

8- Why the ‘Godfather of AI’ decided he had to ‘blow the whistle’ on the technology




اكتشاف المزيد من صحيفة 24 ساعة

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

Previous post المعارضة تفوز بقوة في انتخابات تايلاند بعد سنوات من الحكم العسكري
Next post كولر يعقد 3 اجتماعات اليوم فى الأهلى استعداداً لمواجهة الترجى التونسى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اكتشاف المزيد من صحيفة 24 ساعة

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading