تبدو قضية الوصاية على الأطفال القاصرين هي الأعلى صوتا في مسلسل “تحت الوصاية” للممثلة منى زكي، لكن التفاصيل الدرامية -التي تبدو كما لو كانت تسير في التيار العام لمناصرة المرأة- تشير إلى ما هو أبعد.
ثمة سر لا يجرؤ الكثيرون على النطق به، رغم علانيته في العمل التلفزيوني الميلودرامي الصاخب، وهو أن الجميع رجال ونساء وأطفالا يرزحون تحت وصاية إجبارية من “حيتان” المجتمع الذين يرمز لهم في العمل بكبار سوق السمك الذين يتاجرون في “رزق الصيادين” ويسيطرون على شبكات البيع والشراء ويحددون الأسعار.
كبار التجار بميناء الصيد هم أولئك الذي دفعوا بشقيق الزوج المتوفى إلى التوحش ومحاولة السطو على ميراث أخيه تحت مسمى الوصاية، وهم أيضا الذين دفعوا بالبحارة إلى السرقة والانحراف، وهم الجندي المجهول/المعلوم وراء تحول كل شخوص المسلسل إلى كائنات جشعة أو منحطة أو في أفضل الأحوال بقايا بشر.
حكاية حنان
تدور أحداث “تحت الوصاية” حول أرملة صغيرة السن تدعى حنان، مات عنها زوجها البحار، وترك طفلين أكبرهما 9 أعوام والصغرى أنثى لم تكمل عامها الثاني. تفاجأ الأرملة الحزينة بتدني مدخول مركب الصيد الذي كان يملكه ويديره زوجها الراحل بعد أن تولى إدارته شقيقه، وتفاجأ بأن الجد يريد أن يعمل حفيده الصغير معه في ورشة حرفية بدلا من الاجتهاد في الدراسة. وتعاني حنان من مأزق ضيق العيش من جهة وانهيار أحلامها في تنشئة ابنها وتعليمه.
تحاول الأرملة تولي أمر المركب وتصحيح مسار ابنها، لكن القوانين تمنعها نظرا لاقتصار الوصاية على الأبناء القصر في حالة وفاة والدهم على الجد وليس الأم. تسرق حنان المركب وتتجه من الإسكندرية إلى دمياط، وهناك تخوض صراعا شرسا في مواجهة جشع تجار سوق السمك من جهة، وفي مواجهة الرجال من جهة ثانية، بينما يطاردها شقيق الزوج ويحاول استرداد المركب منها.
تدور الأحداث الرئيسية بين مدينتين ساحليتين هما الإسكندرية ودمياط، وقد اختار المخرج أحمد شاكر خضير مواقع التصوير بوعي واضح، حيث تنقلت البطلة بين أماكن شوارع يبدو فيها الفقر وتواضع المستوى وشقة سكنية شديدة الضيق والتواضع.
لم يستطع المخرج الاستفادة من جمال المدينتين، حيث الإسكندرية ومعالمها السياحية التي اشتهرت بالجمال والعراقة، ودمياط التي اشتهرت بورش الموبيليا ومختلف الأعمال الحرفية والفنية. انشغل خضير بالدراما الفاقعة في محاولة لملاحقة الأحداث التي استعرضت مظاهر الهجوم على امرأة اقتحمت مجال عمل يختص به الرجال فقط، فواجهوها بكل الطرق.
ويعكس ضيق الأماكن الظرف النفسي والاجتماعي الذي تعيشه البطلة وطفلاها، كما جاء أداء منى زكي الرائع ليلخص مشاعر أم تحاول أن تبدو سعيدة أمام طفليها بينما تغالب دموعها.
ولعل المشهد -الذي استعرض حالة فرح افتعلتها مع شقيقتها وابنيها- هو الأكثر إثارة للدهشة والتعاطف معا، فقد طردت ليلا مع طفليها وشقيقتها من سكنهم، ولم تجد مكانا لقضاء الليل سوى مركب الصيد، فقررت أن تفرح رغم كل شيء، وتكرر المعنى نفسه في الحلقة رقم 11 حين حاول “الريس ربيع” (الممثل رشدي الشامي) دفعها للابتسام وسط أجواء محزنة.
ويشير المشهدان إلى ذلك الملمح المصري الخالص المتعلق بسرقة لحظات الفرح من قلب الحزن، وهو ما ألح على تصويره المخرج يوسف شاهين في أفلامه، وخاصة “العصفور، الاختيار” كما قدم المخرج الراحل رضوان الكاشف فيلما كاملا لتجسيده وهو “ليه يا بنفسج”.
أزمة التلقي
كتب كل من خالد وشيرين دياب مسلسل “تحت الوصاية” بذكاء وحرفية واضحة وحاولا خلاله رصد الواقع الاجتماعي والاقتصادي الذي أدى إلى تشكل شخصيات رجال مشوهة، ومن نجا من التشوه بفعل القهر تحول إلى بقايا إنسان أو حلم مجهض مثل “الريس ربيع”.
ثمة شقيق يلعب دور البطل الشرير في العمل هو “صالح” (الممثل دياب) الذي أدى دورا جيدا في حدود ما رسمه له السيناريو، والشخصية لشاب تورط في خطبة فتاة منذ 5 أعوام، لكنه لا يستطيع الزواج بسبب عدم الاستقرار الاقتصادي فلا يجد أمامه سوى مركب أخيه الراحل.
زوج الأخت “إبراهيم” (الذي جسده الممثل علي الطيب) يقدم شخصية من يحب زوجته ويحاول الحفاظ عليها حتى لو قام بدور النذل في رواية أحدهم، وهو ما فعله حين تآمر على الأرملة لتسليمها مقابل الإفراج عن شقيقتها.
أما عمال المركب الثلاثة “البحرية” فقد شكل ملامحهم الفقر والحاجة، فكان من الطبيعي أن يعبروا عن 3 انواع من المنحرفين: السارق والمدمن والمتحرش.
في المقابل، ثمة نساء يقمن بأدوار البطولة ليس على مستوى العمل الفني فقط، وإنما بطولة إنسانية وهن “حنان” (منى زكي) وشقيقتها “سناء” (مها نصار) وهي الأخت المحبة الشجاعة ابنة الأصول، كما أكدت شخصية الأرملة “دلال” (ثراء جبيل) على فكرة الشجاعة والمروءة النسائية بمساندتها صديقتها الجديدة والحفاظ عليها بنبل وتجرد.
وتلعب باقي الشخصيات النسائية أدوارا غير مؤثرة، وإن جسدت “منى” (نهى عابدين) حالة الفتاة التي تجمع بين نوعين من القهر أولهما عاطفي يتعلق بحبها لشخص لا يستطيع تتويج هذه العلاقة بالزواج، وثانيهما قهر القرارات الأسرية، وتبدو الشخصية نفسها قابلة للتطوير لتصبح بشكل أو بآخر نسخة من الأرملة “حنان” لكونها تطمح للعمل من أجل مساعدة خطيبها.
كائنات أشبه بالقوارض
تبقى معاناة النساء في البيوت وسوق العمل وفي الشوارع أيضا واقعا لا يمكن إنكاره، لكن الواقع الأكثر قسوة هو انكسار الرجال وتحولهم إلى كائنات أشبه بالقوارض نتيجة التجارة بهم وبأرزاقهم، وإذا كانت الأرملة المسكينة “حنان” قد نجحت في التغلب على الرجال (القوارض) فإن قصة “الحاجة صيصة” التي استلهمها صناع العمل قد خسرت 30 عاما من عمرها متنكرة في صورة رجل يعمل في مجال خاص بالرجال فقط دون أن تمتلك مركبا ولا مطعما.
ولم يحاول المسلسل إثارة قضية الوصاية على القاصرين فقط، بل أشار بطرف غير خفي إلى الوصاية على طبقات تلعب كأسماك صغيرة بانتظار دورها للحلول في أفواه الأسماك الأكبر.
اكتشاف المزيد من صحيفة 24 ساعة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.