تركيا بين تطلعات الانضمام للاتحاد الأوروبي والعمق العربي الإسلامي | آراء


شهد السياق الدولي، مطلع الشهر الجاري، وبالتزامن من الإعداد لقمة الناتو التي تمت في ليتوانيا مطلع يوليو/تموز الحالي، اتصالات متنوعة وديناميكية متسارعة بين قادة الدول الأعضاء في الناتو، من أجل ضمان موافقة تركيا على انضمام السويد للحلف، وهي العملية التي كانت تركيا تضع شروطا أمامها.

وعقب ذلك، وعلى مستوى إقليمي، قام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بزيارة ذات صبغة خاصة لعدد من دول الخليج. وبين الجدل الذي مر بشأن الموافقة لانضمام ستوكهولم للناتو، وزيارة دول الخليج التي كانت على انقسام فيما قبل وبعضها في حالة صراع مع تركيا، يطرح سؤال التموقع التركي بين الغرب والشرق، وطبيعة التغيرات الحاصلة في العلاقة بدول الخليج ومن ثم العالم العربي والإسلامي.

مفاوضات انضمام السويد.. هل تحقق تركيا رغبتها بالانضمام للاتحاد الأوروبي؟

لم يكن سهلا أمام السويد الحصول على موافقة أنقرة في الانضمام لحلف الناتو، كما كان من الجيد بالنسبة لتركيا تذكير شركائها في حلف الناتو ببعض المصالح الحيوية التي يعد المس بها انتهاكا بأمنها القومي، خصوصا فيما يتعلق بالدعم السياسي المضمر والمعلن لما تصنفه تركيا ضمن التهديدات الإرهابية المهددة للاستقرار.

ومن ثم فالجدل الذي صاحب عملية الانضمام يعكس حالة من الدقة في التفاوض من أجل المصالح الإستراتيجية لتركيا، سواء على المستوى الداخلي أو المستوى الخارجي، في رسم أفق جديد بين أنقرة والدول الغربية، بالإضافة إلى نزع فتيل التوتر مع الولايات المتحدة بخصوص التسلح، وقد كانت شروط تركيا مدار الخلاف بينها وبين السويد من جهة، وبينها وبين الولايات المتحدة، ثم أوروبا من جهة أخرى، ونذكرها كالآتي، حسبما صرحت به أنقرة قبل جولة المفاوضات التي سبقت التوافق مع السويد:

أولاً: شروط تركيا بشأن أمنها

شروط تتصل بمنع الدعم من السويد لكل التنظيمات التي تصنفها تركيا في خانة التنظيمات الإرهابية، وبالأساس حزب العمال الكردستاني، حيث طالبت منذ توقيع المذكرة الثلاثية في مدريد 28 يونيو/حزيران 2022، بتقديم عدد من المطلوبين والتعاون المشترك لإزالة المخاوف الأمنية لديها بخصوص الإرهاب.

وتشكل هذه النقطة بؤرة الإزعاج لتركيا على المستوى الداخلي وفي محيطها الإقليمي، ومن ثم فالحصول على ضمانات بخصوصها، من طرف السويد، قد كان برعاية أميركية كما أشار لذلك فحوى المكالمة التي جمعت بين الرئيسين التركي والأميركي، مما جعل سحب أنقرة للفيتو يعجّل بمسألة الانضمام، حيث يتطلب انضمام أي عضو جديد موافقة كامل الأعضاء الثلاثين لحلف الناتو، كما أن التفاوض بشأن هذه النقطة يعد رسالة للدول الأعضاء بالحلف، والتي لا تتبنى المقاربة التركية فيما يتعلق بالإرهاب أو الموقف من مصدر التهديدات المسلحة والعنيفة داخل أو بجوار تركيا.

والموافقة الأميركية على تزويد تركيا بطائرات “إف-16” (F-16) يعني تخفيف التوتر الذي برز بين الولايات المتحدة وتركيا منذ اقتناء الأخيرة صواريخ “إس-400” (S-400) من روسيا، والذي طال كذلك استبعادها من المشاركة في تصنيع “إف-35” (F-35) وإجراءات عقابية أميركية أخرى بحق الاقتصاد التركي، وكلها كانت تعكس مدى التباين بين الطرفين في المواقف من عدد من القضايا الدولية، حيث اتجهت أنقرة إلى الاستقلال أكثر عن التكتل الغربي، وفتح مسارات جديدة مع موسكو وغيرها بما يضمن مصالحها الحيوية والإستراتيجية.

ولذلك يبرز فحوى المكالمة الهاتفية بين الرئيسين التركي والأميركي جو بايدن، واللقاء الذي جمعهما، مرونة من الطرفين، قد تكون انعكاساتها ذات أثر إيجابي على تركيا من جهة. ومن جانب آخر، بالنسبة للناتو وأوروبا في الحد من قدرات روسيا.

ثانياً: تجديد طرح طلب تركيا الانضمام للاتحاد الأوروبي

وهو الطلب القديم الجديد، بحيث تقدمت تركيا لأول مرة سنة 1987 بطلب العضوية للمجموعة الاقتصادية الأوروبية، وبعد أن نالت وضعية دولة مرشحة للانضمام سنة 1999، دشنت مفاوضات العضوية في التكتل الأوربي سنة 2005، وهي المفاوضات التي توقفت سنة 2016 بدعوى وضعية حقوق الإنسان.

لكن، هل يمثل طرح الرئيس التركي مسألة العضوية، بعد الصمت عنها طويلا، تعبيرا عن إرادة ورغبة قد تتحقق في الأمد المنظور، أم أن هناك وعيا بعوائق أخرى تجعل أنقرة أبعد ما تكون عن الانضمام للاتحاد الأوروبي، وأن التصريح بالتفاوض من أجل العضوية بالاتحاد هو من باب المقايضة والحجاج في التداول السياسي؟

ولقد ابتعدت تركيا في واقع الأمر عن أوروبا كثيرا طيلة العقد الماضي في خياراتها الإستراتيجية، ورؤيتها لموقعها في مسرح الصراع الإقليمي والدولي، ثم من جانب أبعد في استعادة جوانب من الشروط السياسية والثقافية والاقتصادية للاستقلال، وإسباغ ذلك صبغة البعد الحضاري الذي يُمكّن لتركيا أن تجمع في ثنايا تشكلها أقدار الجغرافيا، التي تجمع بين الشرق والغرب، بل حلقة وسطى بين الشرق والغرب، لكن روحها التي تمنحها الاستقلال واستعادة الفعل الحضاري بأبعاده السياسية والاجتماعية والثقافية، والجوانب التاريخية التي تشكل المخيال الفردي والجماعي، يؤكد طبيعة الدوافع الذي تجعل عضوية تركيا بالاتحاد الأوروبي بعيدة المنال.

وعلى الرغم من حصول تركيا على شراكة متقدمة مع الاتحاد، ومسألة الانضمام هذه، لا تتوقف بشكل أساسي على مدى الإصلاحات السياسية والاقتصادية والحقوقية، وكذا مدى ملاءمة تركيا للشروط، إذ تعد هذه الأخيرة متقدمة على دول أخرى بأوروبا الشرقية في هذا المجال، وإنما بسبب خلافات بعضها مبطن كما أشرنا له أعلاه، وبعضها معلن، يتصل بتباين المواقف والمصالح في قضايا إقليمية ودولية، ثم في الموقف والنهج الذي اتجهت فيه تركيا منذ عقدين، ولعل الانتخابات والصراع السياسي يعكس طبيعة الأماني والتطلعات الغربية عموما بشأن ذلك، وهو ما جعل أنقرة من قبل تتجه الى الشرق، وأساسا العمق العربي والإسلامي. ونستحضر ذلك على الرغم من أن حصول انضمام أنقرة للاتحاد الأوروبي واقعيا له انعكاسات إيجابية للطرفين الأوروبي والتركي، وإن كان العالم الآن يشهد نشوء تكتلات جديدة قد تكون أكثر فاعلية في المستقبل.

تركيا والعمق العربي الإسلامي

ليس جديدا على تركيا هذا الاتجاه إلى الشرق الأوسط، فقد شهدت العلاقات التركية العربية، قبل أن يندلع الربيع العربي، تناميا ملحوظا للعلاقات الاقتصادية والتجارية والسياسية والثقافية، ويعد ذلك في واقع الأمر، من رؤية أعمق، تعبيرا عن طبيعة الانتماء من جهة. ومن جهة أخرى؛ تكمن قوة تركيا في علاقتها بعمقها العربي الإسلامي، والقوة هنا في تجلياتها الرمزية والمادية، بينما تشكل القطيعة مع هذا الفضاء الحضاري غربة في المكان والزمان لتركيا، وقد كان القرن الماضي تجليا لتلك الغربة.

وقياسا على تركيا، فإن قوة العالم العربي، بتجلياتها المختلفة ووحدة لحمته، ستظل معدمة في غياب الوصل مع الامتداد الإسلامي الذي يتجاوز، في ديموغرافيته وثرواته وقدراته العلمية والاقتصادية والعسكرية، ما لدى العرب من مقدرات وإمكانات على الرغم من أهميتها.

وبصيغة أخرى يمكن القول إن عنصر ومدخل النهضة والتقدم العربيين سيظل أملا مجهدا، وتحقيقه يتم بمقتضى تجسير العلاقة مع كل دول العالم الإسلامي بالتزامن مع التشققات الحاصلة في النظام الدولي.

ودافع هذا القول ليس المقتضى الثقافي والعقدي وحسب، وإنما في طبيعة الخصائص والروح المشتركة، ثم في ملامح التكامل الاقتصادي والعلمي والعسكري والثقافي، كما أن قسمات التاريخ ومشكلاته تجعل العالمين العربي والإسلامي في نفس الكفة، مهما تبدت الانزياحات والخلافات والانقسامات المتعددة، ذات الأبعاد السياسية أو الطائفية أو الاثنية.

وقد عرفت العلاقات التركية، كما أشرنا لذلك، نموا متصاعدا مطلع عقد الألفية الجديدة، لكنها تأثرت بسبب الاختلاف الذي حصل مع عدد من دول المنطقة بسبب الموقف من الربيع العربي، الذي انتظرت منه أنقرة أن يسفر عن تحول ديمقراطي يشكل أفقا مشتركا للعمل والنهوض، مما جعل تركيا ومعها قطر على خلاف حاد مع كل من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، وحدث ما يشبه القطيعة بينهما. لكن التغيرات، التي حصلت على المستوى الإقليمي والدولي، أدت إلى تغيير جملة من الإستراتيجيات التي اتسمت بانقسام حاد، والانتقال إلى تخفيف التوتر، مما يعد مدخلا لترميم التصدع واستئناف العلاقات. وفي جانب آخر لتلك التغيرات، يمكن إدراج المصالحة السعودية الإيرانية.

وبناء على ذلك، تشكل زيارة الرئيس التركي ملمحا لذلك التغير، وعنوانا لسمة جديدة ستطبع العلاقات، حيث يشكل البعد الاقتصادي هاجسا للجانب التركي، مقابل التطلعات التي تمنحها تركيا لدول الخليج على مستوى الاستثمار، باستثناء الجانب القطري الذي تجمعه من قبل شراكة إستراتيجية متعددة الأبعاد مع تركيا.

إن تطوير العلاقات بين تركيا والعالم العربي واستئنافها بأفق جديد ذو سمة خاصة لتركيا على المستوى الاقتصادي، كما أنه مهم في الآن نفسه للعالم العربي، ليس فيما يخص الاستثمار وحسب، وإنما على مستوى تبادل الخبرة، حيث شهدت تركيا تطورا ملحوظا في الصناعات العسكرية وغيرها من المجالات.

ولا يتوقف الأثر على هذا المنحى، وإنما فيما تمنحه التباينات على المستوى الدولي من إعادة تشكيل أحلاف جديدة على مستوى الإقليم. وتركيا في الآونة الأخيرة باعتبارها قوة إقليمية، أضحت تمتلك خبرة في الصراعات الحاصلة والقدرة على المناورة وتحصيل المكاسب. ولعل هذا قد يمنح مصر مستقبلا امتيازات أكبر على مستوى شرق المتوسط بخصوص الغاز، إذا اتجهت العلاقات نحو مصالحة أكثر، ذلك أن جملة من النزاعات الحاصلة تتلاشى معها مصالح عدد من الدول العربية والإسلامية، كما أن الانقسامات تؤدي إلى مزيد من الإضعاف.

ويحمل الجانب العربي عددا من الهموم والمآسي، ومن ثم فإن عملية الاستئناف للعلاقات، وتعميقها بشكل أكبر، ستبقى ناقصة إذا لم تستحضر ضرورة المصالحات العمودية، أي بين النظم السياسية والنخب والقوى والتيارات الأساسية في المجتمعات، بعبارة المستشار طارق البشري رحمه الله؛ لتجاوز حالة الاحتقان الاجتماعي والسياسي وتوحيد مختلف الإرادات، بالإضافة إلى المصالحات الأفقية بين الدول والأنظمة والنسيج المجتمعي والأيديولوجي والمذهبي للمنطقة، ومن ثم يمكن القول إن مجتمعاتنا بحاجة إلى مصالحات عميقة على المستويين العمودي والأفقي، وهذا سيكون موضوع مقالة مستقلة، لكن عملية المصالحة السياسية والمجتمعية يمكن أن تؤدي فيها تركيا دور الوسيط في العلاقة بين عدد من الأنظمة العربية التي تتجه معها علاقاتها بالتحسن.

ختاما: إن السمة البارزة لتركيا الجديدة، في علاقتها بأوروبا والعالم العربي، تتجه إلى تجسير الصلة بشكل أكبر، وتجاوز ما يمكن أن يؤدي إلى جملة من التوترات، ذلك أن التطلعات التي رسمت للحقبة الراهنة، أو للمرحلة الحالية عقب الانتخابات الأخيرة، بحاجة إلى كثير من الحذر في تدبير العلاقات والصراعات في الآن نفسه، باتجاه الشرق أو الغرب، ومن ثم كانت مسألة انضمام السويد لحلف الناتو مكسبا لتركيا في التفاوض لتحقيق عدد من مصالحها الإستراتيجية، وفي الوقت نفسه عنوانا لتخفيف التوتر مع الولايات المتحدة وأوروبا.

كما جاءت الزيارة لعدد من دول الخليج مؤشرا على تعميق الشراكة التي ستنعكس آثارها على النموذج التركي، وقد تكون مقدمة لديناميات جديدة في العلاقات مع عدد من الدول العربية، مما يعكس حالة وعي إستراتيجي وقدرة على قراءة التغيرات واستشراف خيارات بديلة أكثر واقعية ومرونة، وهنا تكمن أهمية الديمقراطية والكاريزما معا.


اكتشاف المزيد من صحيفة 24 ساعة

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

Previous post علي لطفي مودعا الأهلي: “قضيت في النادي أحسن 6 سنوات وكان نفسي يبقوا 30”
Next post عصر الغليان العالمي بدأ.. لكن اطمئنوا أجسادنا بخير!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اكتشاف المزيد من صحيفة 24 ساعة

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading