10/5/2023–|آخر تحديث: 10/5/202301:54 PM (مكة المكرمة)
“الحرس الوطني لن يكون ميليشيا لأحد، بل جهاز أمني منظم باحتراف. بن غفير كان محقا في رغبته في تأسيس الحرس الوطني، هذا صحيح وضروري”.
في مساء يوم العاشر من أبريل/نيسان الماضي، خرج رئيس وزراء دولة الاحتلال الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” في خطاب بعد التصعيد العسكري مع لبنان وقطاع غزة مُلقيا باللوم على المعارضة الإسرائيلية وحركة الاحتجاج المناهِضة للتعديلات القضائية. وقد حذَّر نتنياهو مرارا من وجود “أقلية متطرفة” تعمل على تأجيج نزاع أهلي في إسرائيل، وعلى تمزيق “الأمة” (الإسرائيلية) إلى أشلاء، وهي أقلية تستخدم العنف لتحقيق أهدافها على حد وصفه، وتهدد بإيذاء المسؤولين المنتخبين (المحسوبين على حكومته حاليا) والتخطيط لاغتيالات سياسية، علاوة على دعمها رفض الخدمة العسكرية.
في خطابه، سلَّط نتنياهو الضوء بشكل صريح على قضية إنشاء “حرس وطني” في دولة الاحتلال، حيث تعهَّد لأكثر وزراء حكومته عنصرية وتطرفا (بن غفير) بإنشاء وتمويل تلك المجموعة القتالية الخاصة. ويبدو أن موضوع الحرس الوطني صار محل اهتمام كبير من نتنياهو وحكومته بشكل يدفع نحو تأسيسه قريبا تحت ذريعة الحاجة إلى محاربة الفوضى في الداخل، وكذلك مواجهة “الجريمة العربية”، وفق مزاعم نتنياهو وقادة الاحتلال.
“ميليشيا” بن غفير
في أثناء عمليتها العسكرية على غزة عام 2021، التي سمَّتها “حارس الأسوار”، فوجئت دولة الاحتلال الإسرائيلي بردة فعل الفلسطينيين في الداخل المحتل (عرب 48) وانتفاضهم ضد السلطات الإسرائيلية. فقد خرج هؤلاء في احتجاجات غير مسبوقة ردًّا على العدوان على سكان القطاع، واشتبكوا مع اليهود في المُدن المختلطة بالداخل الإسرائيلي. وقد وجد قادة الاحتلال آنذاك أن السبيل لمواجهة هذه التحركات المفاجئة هو إنشاء قوة أمنية قادرة على قمع المُحتجين، وبالفعل صدر قرار لأول مرة بإنشاء قوة حرس وطني تتألف من بعض رجال شرطة حرس الحدود وقوة متطوعين كبيرة، وهي قوة وُضِعَت تحت قيادة مُفوّض شرطة الحدود “أمير كوهين”.
بيد أن القوة لم تظهر إلى النور فعليا، ومن ثمَّ ظل إنشاؤها حُلما يخالج قلب المتطرف اليميني ووزير الأمن القومي الحالي “إتمار بن غفير”. ولذا منذ حقق رئيس حزب القوة اليهودية “عوتسما يهوديت” صعوده الانتخابي وتحالف مع نتنياهو عقب صدور نتائج انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وقبل أن يوافق حتى على الانضمام إلى الائتلاف الحكومي الجديد الذي أعاد نتنياهو إلى سدة الحكم؛ أصرَّ الرجل على انتزاع تعهُّد من رئيس الوزراء لإنشاء تلك القوات، على أن تُشكَّل هذه “الشرطة القتالية” في غضون 90 يوما فقط من تشكيل الحكومة كما قيل حينئذ.
مع مرور الأسابيع الأولى من عُمر الحكومة الأكثر تطرفا في تاريخ إسرائيل، بدأ يظهر استياء بن غفير على رأس وزارة الأمن القومي، التي أُنشِئت كي تُشرف على شرطة الاحتلال وخدمة السجون وخدمات الإطفاء والإنقاذ وحرس الحدود، حيث استشعر الرجل عجزه عن التأثير على توجهات شرطة الاحتلال التقليدية في عدد من المجالات. وأهم تلك الملفات مسألة قمع الاحتجاجات الداخلية التي اندلعت قبل أسابيع رفضا لما سمَّته حكومة نتنياهو “خطط إصلاح القضاء”، إذ إن احتواء شرطة الاحتلال للمتظاهرين لم يُرضِ بن غفير، الذي أراد قمعهم بلا هوادة، وحاول التدخُّل من موقعه الوزاري لكن دون جدوى. وبناء على ذلك، عبَّر بن غفير عن شعوره بالإحباط من عدم انصياع شرطة الاحتلال لأوامره، سواء المتعلقة بالرد على “الإرهاب الفلسطيني” حسب وصفه، أو المتظاهرين ضد الإصلاح القضائي.
استغل بن غفير اضطرار نتنياهو لوقف تشريع “الإصلاح القضائي” في 27 مارس/آذار الماضي استجابة للضغوط الداخلية، وهدَّد بالانسحاب من الائتلاف الحكومي ما لم يُشكَّل الحرس الوطني تحت رعاية وزارة الأمن القومي التي يرأسها. وقبل مُضي أسبوع على ذلك، صادقت حكومة الاحتلال على قرار تشكيل جهاز أمني جديد في 2 أبريل/نيسان، وقال بن غفير عقب القرار: “الحرس الوطني الذي صادقت عليه الحكومة رسالة مهمة لسكان إسرائيل وسلامتهم الشخصية، وحاجة ضرورية وأساسية لدولة إسرائيل، وسيعمل الحرس على إعادة السيادة إلى جميع أنحاء إسرائيل”.
في اللحظات الأولى للقرار، تحدَّث بعض المراقبين الإسرائيليين عن أن الميزانية المُخصَّصة للحرس الوطني تبلغ مليار شيكل (نحو 280 مليون دولار)، وأن هناك تمويلا لتدريب نحو 1800 ضابط سينضمون إلى صفوف الحرس. وشمل المقترح أيضا نشر قوات الحرس في جميع أنحاء دولة الاحتلال، على أن يعمل على “فرض النظام” مستخدما وسائل تكنولوجية واستخباراتية حديثة، مع التركيز على العمل في خضم الأحداث الطارئة. غير أن ما لاحظه محللون هو أن بن غفير تمكَّن فعليا من فرض أهم شروطه، وهو أن يكون الحرس قوة منفصلة عن غيرها من المؤسسات العسكرية في دولة الاحتلال، وأن يُحوَّل إلى جهاز مستقل يخضع لسلطته بوصفه وزيرا للأمن القومي.
بن غفير ومهمة قمع “الليبراليين”
في صباح 27 مارس/آذار الماضي، دعا رئيس وزراء الاحتلال نتنياهو أنصاره من اليمين المتطرف إلى مسيرة داعمة للتعديلات القضائية في القدس المحتلة. نُشرت دعوة نتنياهو بين مناصري حزب الليكود ومجموعاتهم على تطبيق “واتساب”، وقد لبَّى المئات الدعوة التي تزامن موعدها مع تظاهرات المعارضين للتشريع اليميني في شتى أنحاء إسرائيل، حيث انطلق اليمينيون وسط جموع المحتجين يهاجمون المارة ويبصقون عليهم ويرمونهم بالبيض. ونالت اعتداءاتهم تلك من “يوسي إيلي” مراسل القناة 13 الإخبارية، وذلك على يد أحد أعضاء جماعة “فاميليا” اليمينية المتطرفة، وهي جزء من شبكة عصابات عنيفة وشبابية تابعة لفريق كرة القدم الإسرائيلي “بيتار القدس”، ومُقرَّبة من حزب الليكود.
في وقت سابق من ذلك اليوم، قرَّر نتنياهو الانصياع للضغوط الداخلية ووقف تشريع الإصلاح القضائي، أو تأجيله على حد وصفه حتى جولة الكنيست الصيفية التي سيُعاد فيها تقديم التشريع، ثم خضع لضغوط بن غفير وأعلن تأسيس الحرس الوطني. ومع وصل النقاط بين الاعتداء على المحتجين وتأسيس الحرس الوطني ووجود عصابات جاهزة بالفعل تمارس العنف خارج إطار القانون لصالح اليمين الإسرائيلي، فلن يكون صعبا أن نستشرف أن الحرس المنتظر سوف يكون أشبه بميليشيا يمينية تعمل على مأسسة العنف المتطرف للمستوطنين ومنحه صفة رسمية، وبطبيعة الحال ترسيخ الوضع القائم في الضفة الغربية التي يتركَّز فيها أنصار اليمين المتطرف.
يحضر قمع المعارضين الإسرائيليين بوصفه هدفا آخر من وراء إنشاء حرس وطني، جنبا إلى جنب مع تشديد قمع الفلسطينيين في الضفة وفلسطينيي 48 في الداخل المحتل، لا سيَّما وقد باتت أرصدة نتنياهو أبعد عن اليمين التقليدي، وأقرب إلى شبكات اليمين المتطرف التي لا تحظى بدعم الجماعات اليهودية النافذة في الولايات المتحدة. ولذا، لعل الرجل يحاول استلهام نموذج إنشاء قوة خاصة بعيدا عن المؤسسات الأمنية التقليدية مهمتها حماية النظام فقط، بغية ترسيخ حكمه بوسائل محلية بحتة، دون الحاجة إلى الدعم الأميركي والدولي.
غير أن هذه الخطوة لا تخلو من مخاطر كبيرة على الاستقرار السياسي لدولة الاحتلال نفسها، على رأسها التوجس المتوقع من تشكيل ميليشيا عسكرية تخضع لسلطة نتنياهو وبن غفير وحدهما، وما يعنيه ذلك من توسيع نطاق استخدام القمع في إسرائيل أكثر من أي وقت، وإزالة ما تبقَّى من قيود ولو واهية لطالما أبقت الاتجاهات اليمينية والمتطرفة تحت السيطرة إلى حدٍّ كبير. الأهم من ذلك ربما هو أن انضمام هذه القوة إلى المؤسسات الأمنية التي تعمل في المجال نفسه نظريا يحمل في طياته احتمالية ظهور قوتين متنافستين في دولة الاحتلال، لا سيَّما إن تداخلت المهام بينهما، وهو أمر من شأنه أن يخلق صراعات على السلطة وتسلسلات قيادية غير واضحة لعلها تفتح الباب لزعزعة استقرار الدولة في نهاية المطاف.
فلسطينيو الداخل تحت فوهة الحرس
وقف المتطرف اليميني “رافائيل موريس” (27 عاما) في منزله الكائن في بؤرة “أحيا” الاستيطانية الإسرائيلية في الضفة الغربية ومن خلفه صورة للحاخام المتطرف “مائير كاهانا”، الذي قاد حركة كاخ الإرهابية، وتحدَّث في حوار لصحيفة “واشنطن بوست” عن لقائه الأول مع بن غفير، وهو تلميذ كاهانا أيضا. وكان ذلك عندما انضم موريس إلى “شباب التلال”، الجماعة الاستيطانية الصهيونية المتطرفة التي يعيش معظم أعضائها في بؤر استيطانية في الضفة الغربية المحتلة، وتمكَّنوا من السيطرة على عشرات التلال في جميع أنحاء الضفة منذ عام 1990.
عبَّر موريس عن فخره الشديد بمشاركة الجماعة في نشاطات إرهاب القرى الفلسطينية، إذ أحرقوا المنازل والمساجد والسيارات وبساتين الزيتون الخاصة بالفلسطينيين، واعتدوا على العُزَّل من أصحاب الأراضي، وواجهوا قوات الأمن الإسرائيلية نفسها. أما الأهم في نظره فهو الطمأنينة التي عاشها موريس ورفاقه بسبب وجود بن غفير مُدافعا شرسا ومتفانيا في الذبِّ عنهم، فلطالما أنقذهم بن غفير من السجن وقدَّم لهم المشورة حول كيفية “ممارسة حقوقهم” وتحدي مراسيم الشرطة في دولة الاحتلال. وقد تمرَّس بن غفير، الذي أُدين مرارا بالتحريض العنصري، على تلك الأساليب القانونية الملتوية منذ كان شابا نشطا في صفوف اليمين الإسرائيلي، ونجح المرة تلو المرة في تجاوز العقبات القانونية والدستورية للدولة الإسرائيلية من أجل تحقيق أجندته اليمينية، وليس غريبا إذن حرصه الحالي على تغيير تلك الأُطُر الدستورية من جهة، ومحاولة تأسيس قوة موازية للنظام الرسمي من جهة أخرى.
مع صعود بن غفير السياسي في عام 2021، شعر موريس أن جماعة شباب التلال ستكون أقوى من ذي قبل إن أُتيحت له الفرصة كي يُنفِّذ أجندته من داخل حكومة إسرائيلية. وبالفعل، سرعان ما ارتبط صعود بن غفير وتعيينه وزيرا بحركة المستوطنين الهمجية، حيث دعا حزبه إلى طرد الفلسطينيين، وضم الضفة الغربية بالكامل إلى سلطة الاحتلال دون مواربة، ودون أي اعتبار للالتزامات الدولية تجاه حل الدولتين. وعلى مدار العقد الماضي درَّب بن غفير أصدقاء موريس المتطرفين على تحدي الوضع الراهن في الحرم القدسي، الذي يسميه اليهود “جبل الهيكل”.
بيد أن فرصة هؤلاء المتطرفين اليهود ستكون أخطر في حال انضموا إلى الحرس الوطني الذي لم يُخفِ بن غفير أنه مُخصَّص بصورة رئيسية لاستهدف فلسطينيي 48 (الذي يُشكِّلون نحو 20% من سكان دولة الاحتلال)، إذ وصف نفسه بأنه “سيد الأمن ومُحارب الجريمة العربية”. كما يقول مركز عدالة إن إنشاء الحرس الوطني يهدف إلى إضفاء الطابع المؤسسي على التعاون بين المدنيين اليهود الإسرائيليين المُسلَّحين والشرطة الذي بدأ في أعقاب انتفاضة مايو/أيار 2021، ويسير بالتزامن مع رغبة تحالف يميني سياسي جديد في إسرائيل تدشين مشروع سياسي أكثر تحرُّرا من الالتزامات الدولية، وأكثر التحاما مع جيل المستوطنين الحالي ومع الأفكار المتطرفة التي يعتقدون أنها “منبوذة” من قِبَل المؤسسة الرسمية الإسرائيلية.
A retired Israeli colonel who was filmed telling his soldiers to “enjoy” killing Palestinian fighters — whom he also referred to as “rats” — is likely to lead Israel’s “national guard” pic.twitter.com/MJnX3nOeXt
— TRT World (@trtworld) April 11, 2023
تُنبئنا قائمة المرشحين لشغل الوظائف الهامة في الحرس الوطني بالكثير عن طبيعة ذلك الكيان الإسرائيلي الجديد. على سبيل المثال، يُعَدُّ “أفينوعام إيمونا” المرشح الأبرز لقيادة الحرس الوطني، وهو رجل موالٍ لبن غفير بالطبع، ويُعرَف عنه استمتاعه بقتل الفلسطينيين، حتى إنه استخدم شعار “ابتسم واقتل واستمتع” لتحفيز جنود الاحتلال على ممارسة مهامهم. وقد تضمَّنت مهامه في وحدة نخبة المظليين 101 حملات قمع واسعة النطاق ضد الفلسطينيين أثناء انتفاضة الأقصى، وكذلك مهام قتالية في وقت حرب تموز في لبنان عام 2006، والعدوان على غزة عام 2014.
في النهاية، يمكن القول إن نتنياهو الذي يشتري الوقت حتى حلول الصيف، حين يحين موعد فتح ملف “الإصلاح القضائي” من جديد، يضع في حساباته الاستعداد جيدا للموجة القادمة من الاحتجاجات، ولا يُستبعد أن يتجه هو وشريكه “بن غفير” إلى حرب تكسير عظام غير مسبوقة مع أنصار النظام الدستوري القائم في دولة الاحتلال، وذلك بإنشاء قوات مستقلة عن الجيش والشرطة، تكون على أهبة الاستعداد لقمع الاحتجاجات بدلا منهما، وتعمل أيضا على ضمان عدم تمرد عناصر في الجيش والشرطة على الحكومة، والأهم بالطبع، دائما وأبدا، قمع الفلسطينيين في الضفة الغربية وفي الأراضي المحتلة عام 1948، وربما المشاركة مستقبلا في حملات عسكرية غير نظامية على قطاع غزة التي فشلت فيها مرارا وتكرارا الأساليب النظامية.
ما إن كان الحرس سيظهر إلى النور بشكل صريح قبل فصل الصيف، أم أن تأسيسه سيستغرق وقتا أطول أو يتعثر بالكلية، هو أمر ستكشفه الأسابيع القادمة، بيد أنه أمر جوهري في تحديد ملامح السياسات المستقبلية في دولة الاحتلال، التي يبدو أن ثمَّة تحالفا جديدا عازما على تغييرها إلى غير رجعة، مُغامرا في ذلك بكل حظوظه السياسية، وربما بفرصة نتنياهو الأخيرة في السلطة، بل ولعله يغامر أيضا بمستقبل الدولة الصهيونية نفسها وعلاقاتها الدولية المعهودة منذ تأسيسها عام 1948.
اكتشاف المزيد من صحيفة 24 ساعة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.