مراكش- أوجد الإنسان منذ القدم تعبيرات شفوية وأخرى كتابية للدلالة على عدّ الأشياء، واستعمل الحروف في البداية قبل أن يخترع الأرقام وأنظمة العد.
وتعتبر الأرقام العربية الأكثر انتشارا في العالم الآن، وهي مرتبطة أشد الارتباط بنظام العد العشري، وتعدّ طفرة بل ثورة علمية في عالم الحساب، إذ بسّطت كتابة الأعداد وخوارزميات الحساب، وقدّمت طريقة بسيطة لإجراء عمليات معقدة، وكانت تسمى بحروف الغبار ثم أرقام الغبار، وتطورت لتتخذ في الأخير شكلها الحالي (0، 1، 2، 3، 4، 5، 6، 7، 8، 9).
وبحسب المؤرخ المغربي عبد الهادي التازي، فإن أول من ذكر شكلها هو ابن الياسمين المغربي (توفي سنة 1204) في كتابه “تلقيح الأفكار في العمل برسوم الغبار”، وميزها عن الأرقام المشرقية (٠، ١، ٢، ٣، ٤، ٥، ٦، ٧، ٨، ٩) التي تسمى أيضا الأرقام العربية المشرقية أو الأرقام الهندية.
وكتب الشيخ عبد الرحمن الأخضري الجزائري عنها في نظمه “الدرة البيضاء في أحسن الفنون والأشياء”:
حروفها معلومة مشهورة.. من واحد لتسعة مذكورة
وجعلوا صفرا علامة الخلا.. وهو مدور كحلقة جلا
وتنتشر الأرقام العربية من شرق ليبيا إلى الساحل المغربي المطلّ على المحيط الأطلسي وفي منطقة الساحل الأفريقي جنوب الصحراء الكبرى، فيما تنتشر الأرقام الهندية في جميع بلدان المشرق العربي وفي طليعتها مصر التي تعمل مطابعها وأجهزتها الإدارية بهذه الأرقام.
ولا يزال أصل هذه الأرقام لغزا، حيث سادت فرضية الأصل الهندي للأرقام، فيما ظهرت أصوات أخرى تنافس هذه الفرضية.
أصل الأرقام
ينسب معظم المؤرخين الغربيين أصل الأرقام العربية إلى البيزنطيين أو اليونانيين، ومنهم -كما بعض العرب- ينسبونها إلى الهند.
لكن المستشرق البريطاني وليام مونتغمري واط (1909-2006) وهو عالم معروف باعتداله وبقدر مقبول من الإنصاف، يرجّح بشكل صريح نسبة الأرقام الحديثة إلى العلماء العرب كما يوضح الباحث المغربي عبد السلام الجعماطي في حديث للجزيرة نت.
ويضيف الجعماطي أنه على الرغم من وجود عداء شديد لمسألة السبق الحضاري العربي في مجال الأرقام تحديدا، لم يجد المستشرق الفرنسي البارون كارا دي فو (ت 1867) بدًّا من الاعتراف بفضل العلماء العرب في هذا المجال، خاصة العالم الخوارزمي الذي نظم للمأمون ملخص جداول فلكية هندية عرفت باسم “سند هند”، وتُرجمت إلى اللغة العربية في عهد الخليفة المنصور، كما أسس علم الجبر، وتعتبر أعماله الأولى من نوعها في الحساب باستخدام نظام العد العشري المرتبط بالأرقام العربية.
ويؤكد الجعماطي أن الدراسات العلمية المتخصصة في تاريخ الأعداد الحسابية برهنت أن الأرقام العربية هي ابتكار ظهرت أولى بوادره في المناطق التي استوطنتها شعوب عربية، سواء تعلق الأمر بالشرق الأدنى القديم أو شمال أفريقيا وحوض البحر المتوسط الشرقي.
ونتحدث هنا عن أصل الأرقام العربية (الغبارية)، لا عن تاريخ الرياضيات عند الشعوب القديمة، كما يوضح للجزيرة نت الباحث الجزائري أحمد بوسنة صاحب كتاب “الحقيقة حول أصل الأرقام، من أجل فلسفة أخرى لتاريخ العلوم”.
ويضيف أستاذ الفيزياء النووية وتاريخ العلوم أن بحثه الذي اعتمد على تحقيق مخطوط عربي جزائري من أوائل القرن التاسع عشر، خلص إلى أن الأرقام العشرة التي نستخدمها ما هي في الحقيقة سوى عشرة حروف عربية مرتبة حسب الترتيب الأبجدي، تم تعديل أشكالها بعض الشيء.
سرّ الزوايا
وتنتشر نظرية فحواها أن رموز أرقام الغبار (العربية)، تحسب عدد زوايا الشكل الهندسي الممثل لرمز الرقم.
ويقول الباحث الجعماطي إن مبدأ حساب قيمة الرقم يعتمد على تعداد الزوايا التي يشتمل عليها، ما عدا في حالة الصفر الذي لم يخضع لهذا المبدأ. وقد أطلق الغرب المسيحي “الصفر” على جميع الأرقام، وذلك عقب تلقيه لهذا النظام الحسابي عن العرب في الأندلس وصقلية، وتعرفه على أشكال الأرقام العربية من خلال ترجمة الجداول الفلكية من قبيل جداول طليطلة الفلكية التي ترجمت إلى اللغة القشتالية انطلاقا من نصوص عربية.
فيما يرى الباحث أحمد بوسنة أن فرضية الزوايا جذابة لكنها خاطئة، لأن منطلقها هو شكل الرقم الحديث، فيما الواجب أن يكون منطلق التفكير هو رمز رقم الغبار الأصلي كما كان في المغرب العربي وقبل أن ينتقل إلى أوروبا، ذلك أن الرقمين 4 و5 لا يحسبان عدد زوايا الشكل الهندسي للرقم.
اختراع الصفر
ينسب اختراع الصفر الذي بسط تمثيل الأرقام، وخوارزميات العمليات الأساسية إلى الخوارزمي، الذي لولاه لما تطورت الرياضيات ومن بعدها التكنولوجيا.
فيما يشرح الباحث بوسنة -الذي ينفي نظرية الزوايا عن الأرقام- أنه يمكن تبرير اختيار رموز أرقام الغبار بالقيم العددية للحروف العربية، لكن اختيار رمز رقم الغبار 0 لا يمكن تفسيره بنفس الطريقة، ذلك أن القيمة صفر ليست قيمة أبجدية.
ويشير إلى مقارنة رمز الرقم 0 بالسكون (°) في الكتابة العربية، من قبل العالم القرآني “أبو عمرو عثمان الداني” (371-444 للهجرة)، لكنه هو نفسه يرى أن الصفر مشتق من رمز الحرف العربي “ص” الذي هو الحرف الأول للكلمة العربية صفر.
إشعاع
وكان للأندلس المسلمة دور في دراسات الرياضيات والفلك، كما يؤكد الباحث الجعماطي. فعن طريقها وصلت علوم العرب إلى علماء أوروبا، ومن خلال هذه العلوم دخلت الأرقام العربية إلى الغرب المسيحي تدريجيا عبر الترجمة التي نشطت في مدرسة أسست لهذه الغاية بطليطلة، ثم بإشبيلية في عهدي الملكين فرناندو الثالث (1217-1230م) وألفونسو العاشر (1252-1284م) الملقب بـ”العالم”، كما شقت الأرقام العربية طريقها إلى أوروبا عبر بوابة صقلية وجنوب إيطاليا، على يدي المترجم ميكيل إسكوتو (ت 1232م)، وليوناردو البيزاني الشهير بـ”فيبوناتشي”.
فيما يؤكد الباحث بوسنة أن أول محاولة لإدخال أرقام الغبار إلى أوروبا جرت من قرطبة، دون نجاح يذكر مع البابا سيلفستر الثاني (ت 1003م)، وكان الانتقال الحقيقي لأرقام الغبار إلى أوروبا من منطقة بجاية الجزائرية مع التجار من جهة وليوناردو فيبوناتشي (ت 1250م) من ثانية، حيث تطورت وأعطت الأرقام الحديثة.
وهكذا تعالت أصوات إلى توحيد استعمال الأرقام العربية. ويشير الباحث الأكاديمي علي القاسمي -للجزيرة نت- إلى توصيات من جامعة الدول العربية والمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألكسو)، تدعو الدول العربية إلى توحيد الأرقام بصورة الأرقام الغبارية، لأنها هي المستعملة عالميا، ولأن الصفر في الأرقام الهندية (.) يسبب مشكلة في العمليات الحسابية والرياضية.
وأعلنت دولة قطر البدء باستعمال الأرقام العربية بداية من سبتمبر/أيلول المقبل. وتعقيبا على هذه الخطوة، يصف الباحث المغربي السلمي القرار بالشجاع والعلمي والمنطقي، وهو يسعى إلى توحيد العالم العربي من الناحية الثقافية، وإلى الالتحام بنظام عربي أوجده العرب في الأصل.
اكتشاف المزيد من صحيفة 24 ساعة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.