“فاغنر”.. مرتزقة في خدمة إرهاب الدولة | آراء


في أواخر مارس/آذار 2022، تمت تصفية ما يقرب من 300 شخص رميا بالرصاص، ودفنهم في مقابر جماعية، وذلك في قرية صغيرة تُدعي “مورا” بالقرب من الساحل الغربي لمالي. واتهمت هيومان رايتس ووتش الجيش المالي ومليشيات “فاغنر” الروسية بالقيام بتلك المذبحة المروّعة.

وقبل عامين تقريبا رفعت منظمات حقوقية دولية دعوى قضائية ضد مليشيات “فاغنر” لارتكابها جرائم مروّعة في سوريا منذ عام 2018. وأواخر مايو/أيار الماضي، وجه الادعاء الأوكراني للمليشيا اتهامات بارتكاب جرائم حرب في أوكرانيا استهدفت المدنيين، ونشر ممثلو الادعاء أسماء وصور 8 مطلوبين لارتكابهم جرائم حرب في قرية “موتيزين” بالقرب من العاصمة الأوكرانية كييف.

ومنذ تأسيسها قبل نحو عقد بدت الشركة العسكرية الروسية الخاصة (Wagner Group) كما لو كانت شركة تجارية تقليدية، ولكنها في الواقع لم تكن كذلك؛ فالشركة الخاصة على علاقة وثيقة بالجهات العسكرية والاستخباراتية الروسية منذ تأسيسها وحتى اليوم. واستخدمتها الحكومة الروسية بزعامة الرئيس فلاديمير بوتين أداة غير رسمية لنشر النفوذ الروسي في الخارج، وذلك من دون الحاجة لتدخل القوات العسكرية الروسية بشكل رسمي. وبهذا فإن “فاغنر” منظمة أو مليشيا عسكرية تابعة للدولة الروسية وليست مجرد شركة خدمات عسكرية وأمنية خاصة كما قد يظن البعض.

وحقيقة الأمر، فإن “فاغنر” ما هي إلا قمة جبل الثلج، وواحدة من أبرز تجليات ظاهرة أخرى أكثر تعقيدا، وهي ظاهرة شركات الأمن الخاصة والشركات العسكرية الخاصة التي ظهرت وانتشرت بشكل كبير بعد سنوات قليلة من انهيار الاتحاد السوفياتي وأوائل التسعينيات.

وقتها خرج آلاف المقاتلين والعسكريين الروس من الخدمة بعد العودة من مهامهم في الجمهوريات والبلدان التي كانت تابعة للاتحاد السوفياتي، وأسسوا شركات لتوظيف خدماتهم وخبراتهم العسكرية مقابل المال. ولجأت لخدمات هذه الشركات العسكرية الخاصة العديد من الجهات الحكومية والخاصة؛ نظرا لمرونة الحركة التي تتمتع بها هذه الشركات، إضافة إلى أنها أوفر ماليا وأقل عرضة للمحاسبة، وتكون غالبا قدراتها القتالية أكثر من الجيوش العادية.

وحقيقة الأمر، فإن كثيرا من الصراعات التي جرت خلال العقود الثلاثة الماضية -كما هي الحال في العراق وأفغانستان- قد شهدت بروز دور شركات الأمن الخاصة، ولعل أبرزها شركة “بلاك ووتر” الأميركية التي تورطت في كثير من الانتهاكات أثناء الحرب الأميركية على العراق، وقد حوكم بعض أعضائها بالسجن مدى الحياة في أميركا. وهناك تقارير عديدة حول استمرار “بلاك ووتر” في تقديم خدماتها العسكرية والأمنية لبعض البلدان في الشرق الأوسط. فعلى سبيل المثال، نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” قبل عامين تقريرا لمحققين أمميين حول قيام الرئيس السابق لشركة “بلاك ووتر” إريك برنس بإرسال مرتزقة مزودين بطائرات مسيرة هجومية وزوارق حربية وقدرات للحرب السيبرانية إلى اللواء الليبي المتقاعد خليفة حفتر عام 2019 لمساعدته في شن هجومه على طرابلس ومناطق أخرى في الغرب الليبي. وهو ما يعد انتهاكًا لحظر السلاح الأممي المفروض على ليبيا منذ عام 2011.

أما في روسيا، فحسب العديد من التقارير والدراسات، فإن هناك آلافا من شركات الأمن الخاصة العاملة في البلاد التي تعمل في مجال حراسة البنية التحتية وتقديم خدمات الحماية لكبار الشخصيات الروسية. ورغم أن القانون الروسي لا يسمح بتأسيس شركات عسكرية خاصة على أراضي الاتحاد الروسي، إلا أن هناك العديد من الثغرات القانونية التي يتم استغلالها من أجل تأسيس تلك الشركات. فمثلا بينما يجرم القانون الجنائي الروسي عمل الأفراد مرتزقة، فإنه يُسمح للشركات التي تديرها الدولة بأن تكون لها قوات مسلحة خاصة ومؤسسات أمنية. فضلا عن وجود شبكة كبيرة من المتعهدين ومقاولي الباطن الذين يسمحون للمواطنين الروس بالعمل في الشركات العسكرية الخاصة.

حيلة أخرى يتم استخدامها لتفادي القيود القانونية، هي تسجيل الشركات العسكرية الروسية الخاصة خارج البلاد، وهو ما يسمح للسلطات الروسية بتجاهل عملياتها بوصفها منظمات أجنبية لا تقع تحت طائلة القانون الروسي.

هذه الفجوات القانونية ساعدت الحكومة الروسية على استخدام خدمات هذه الشركات من دون الوقوع في مسألة انتهاك القانون الروسي. وهذا ما يحدث بالضبط في حالة مليشيات “فاغنر”؛ فالشركة غير مسجلة في روسيا أو في أي مكان آخر، وتستفيد من الثغرات القانونية من أجل مد خدماتها للطبقة الأوليجاركية الحاكمة في روسيا، وعلى رأسها بوتين وحلفاؤه. وبذلك فبحكم القانون الروسي فإن الشركة غير موجودة رسميا، ولكنها تستفيد بشكل كبير من علاقاتها بكبار المسؤولين داخل السلطة، سواء في الكرملين أو البرلمان الروسي.

وهناك وقائع عديدة تؤكد أن مجموعة “فاغنر” خاضعة للدولة الروسية، منها على سبيل المثال دورها في الصراع الدائر في سوريا الذي تدخلت فيه موسكو بشكل كبير أواخر عام 2015. فحسب العديد من التقارير، فهناك العديد من مقاتلي “فاغنر” الذين يتم علاجهم وإعادة تأهيلهم في المستشفيات العسكرية الروسية وذلك مثلما حدث بعد معارك “دير الزور” عام 2018، حيث تم إجلاء الناجين من الجرحى بواسطة طائرات طبية عسكرية روسية إلى المستشفيات العسكرية في روستوف وموسكو.

كذلك تم إرسال عملاء ورجال تابعين لـ”فاغنر” إلى فنزويلا من أجل مساعدة الرئيس نيكولاس مادورو حين كانت البلاد على وشك الدخول في صراع أهلي عام 2019. وحسب تقارير عديدة، فقد وصل هؤلاء الرجال على متن طائرات تابعة للقوات الجوية الروسية. حدث الأمر ذاته في ليبيا، فطائرات الشحن العسكرية الروسية تقوم بنقل مقاتلي “فاغنر” إلى هناك بشكل مستمر؛ وكل هذا يؤكد ارتباط “فاغنر” بالدولة الروسية بشكل وثيق.

وعلى مدار العقد الماضي، توّسع نشاط “فاغنر” بشكل غير مسبوق لم تصل إليه أية شركة خدمات أمنية أو عسكرية خاصة من قبل؛ فقد امتد نشاطها ليشمل عددا كبيرا من البلدان من سوريا إلى ليبيا ومالي والسودان وأفريقيا الوسطى. في حين يتحدث البعض عن أن لها وجودا وتأثيرا كبيرا في نحو 13 دولة أفريقية، فضلا عن دورها في الحرب الحالية بأوكرانيا.

“فاغنر” -إذن- ليست مجرد شركة خدمات عسكرية خاصة، وإنما هي ذراع عسكرية للدولة الروسية تحاول من خلالها مد نفوذها وتأثيرها عبر العالم، وتقوم من خلالها بالعمليات القذرة التي لا تريد أن يكون للجيش الروسي تدخل صريح بها. لذلك ليس غريباً أن يتعامل رئيس “فاغنر” يفغيني بريغوجين مع بوتين ليس بوصفه مجرد “مرتزق”، وإنما كما لو كان زعيما سياسيا وعسكريا يسعى لحفظ ماء وجه بوتين ودولته خارجيا.


اكتشاف المزيد من صحيفة 24 ساعة

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

Previous post قبل ما تشترى اللحمة فى العيد.. علامات للتأكد من سلامتها منها اللون والرائحة
Next post بدء نفرة الحجاج من مشعر عرفات إلى مشعر مزدلفة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اكتشاف المزيد من صحيفة 24 ساعة

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading