أدمنت منذ خروجي من السجن -أبريل/نيسان 2019- متابعة ما يُكتب عن الربيع العربي من زاويتين:
الأولى: فهم وتفسير ما جرى من مداخل علمية وأكاديمية، وهو كم كبير لا يزال يصدر منه كثير حتى الآن. أسهم الربيع العربي في تجديد الأجندة البحثية والاقترابات التي يتم من خلالها فهم المنطقة؛ إلا أن أهمية هذا الجهد -من وجهة نظري- أنه يمكن أن يسهم في بناء سردية مشتركة وإن تنوعت جوانبها لتطلع شعوب المنطقة، خاصة الفئات الشابة والنساء، على القيم الإنسانية العامة؛ وهي الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية.
والثانية: المراجعات والنقد الذاتي اللذان يقوم بهما رموز وتيارات فكرية وسياسية في إطار شهاداتهم على المرحلة بإخفاقاتها ونجاحها.
في إدراكي أنه منذ 2011 تواجه المنطقة حقبة جديدة معلنة نهاية القديم، وإن استمر معنا بعض الوقت. الدورة التاريخية الجديدة لا نجاح لها من دون مراجعات كبرى: فقد تخلخلت أركان القديم وشرعيته، وانفتحت أمامنا آفاق حقبة تاريخية جديدة؛ إلا أن هذا الجديد لم يتبلور بعد ونحتاج عبر عمليات المراجعة والنقد الذاتي استخلاص الدروس والخبرات.
أهمية شهادة المنصف المرزوقي -التي نشرت بموقع الجزيرة في 5 مقالات امتدت على مدار شهر كامل- تنبع على حد قوله من “التجربة المباشرة لـ30 سنة من المعارضة و3 سنوات من الحكم في أعلى مراكز القرار والمراقبة لعمل أجهزة الدولة”، ويقصد بالأخيرة توليه رئاسة الجمهورية التونسية عقب ثورة الياسمين 2011.
ورغم إشارته إلى هاتين الخبرتين فقط؛ فإن ما سيطر أكثر على المقالات جميعا هو إخفاقه المتوالي في الانتخابات التي شارك فيها مرشحا على منصب رئيس الجمهورية.
دعته الخبرة الأخيرة إلى تقديم نقد نظري وبرامجي سياسي للمفاهيم التي تأسست عليها الديمقراطية التمثيلية من قبيل: حكم الشعب ومفهوم الإرادة العامة والمصلحة العامة، بالإضافة إلى الممارسات التي باتت تصرف الانتخابات عن تحقيق مرادها في اختيار الأكفأ والأصلح لإدارة المؤسسات العامة من قبيل المال الفاسد والإعلام الفاسد والتضليل الإعلامي والمعلوماتي، وهي قضايا باتت تناقش على المستوى العالمي وفي الديمقراطيات المستقرة.
معارضات خمس
المقصود بالمعارضة هنا ليس معناها السياسي أو الفكري؛ أي منافاة ومخالفة الرأي المقدم -وإن تضمن مقالي منها الكثير- بل أقصد المعنى الذي استقر في الشعر العربي، وهو أن ننسج على نفس القصيدة قصيدة أخرى تتفق في المعنى أو القافية أو الصور البديعة.
إن سمح لي أ.د. المرزوقي -وهو قامة سياسية وحقوقية- لا يطاولها مثلي؛ فإني أتفق معه في أطروحته الأساسية التي تأسست عليها مقالاته الخمسة وهي:
- أننا بصدد تحديات جديدة تواجه المجتمعات والسلطات العربية على السواء من قبيل التغير المناخي والتطور التكنولوجي، ويمكن أن نضيف إلى القائمة ما يطول فيه الحديث من قبيل تغير هيكل النظام الدولي وصعود اليمين وصراع الهويات وتضخم عدد الشباب …إلخ. مثل هذه المشاكل المرعبة تتطلب أدوات سياسية على مستوى ما تطرحه من تحديات.
- أولوية الأولويات وأشد ما تحتاجه جل شعوبنا -إذا استثنينا البلدان الخليجية- النمو الاقتصادي لكي يجد عشرات الملايين من شبابنا أبسط فرص العيش، وأيضا حتى لا يتسارع انهيار الطبقة الوسطى ويعمّ الفقر كما هو الأمر حاليا.
- أول الشروط وأكثرها أهمية بلا نقاش هو الاستقرار السياسي، والسبب الرئيس وراء انعدام الاستقرار المزمن هو الصراع على سلطة تتمكن منذ بداية تاريخنا عبر العنف وتمارس بالعنف وتنتقل بالعنف.
- وحدها الانتخابات الديمقراطية أثبتت في كل بلدان العالم قدرتها على إنهاء الصراع الدموي على السلطة، ومن ثم توفير الشرط الهيكلي للاستقرار السياسي. مثل هذا الاستقرار السياسي المستدام غير ممكن حاليا خارج نظام ديمقراطي.
- ⁃النظام الديمقراطي وحده هو القادر على تحقيق الشروط الثلاثة الأخرى الضرورية لإنقاذ أمة منكوبة، وهي:
- شعب من المواطنين.
- دولة القانون والمؤسسات.
- اتحاد شعوب عربية حرة.
معارضتي للمرزوقي ليست بالمعنى السياسي أو الفكر -أي مخالفة الرأي- بل بالمعنى الشعري الذي ننسج فيه قصيدة على منوال قصيدة أخرى
المآخذ الأساسية
هذه الأطروحة الأساسية تعاني من 5 مآخذ أساسية:
- الأول: الفصل بين المكونين السياسي والاقتصادي للديمقراطية، فهي لا تجعل الثانية من مقتضيات الأولى، على الرغم من أن التجربة التونسية لم تؤت إلا من هذا القبيل؛ حين افترق المكونان سريعا بعد الثورة مما سهل أن يستفيد قيس سعيد من ذلك ليتمكن من الحكم باستخدام خطاب شعبوي خلق قاعدة جماهيرية سهلت له الانقلاب على المؤسسات السياسية المنتخبة.
أزعم أنه من دون الدمج بين المكونين فلا يمكن للديمقراطية بالمعنى السياسي الذي قدمه المرزوقي في مقالاته أن يكون لها مستقبل.
- الثاني: عانى “النقض” -بالضاد- الذي قدمه المرزوقي للمفاهيم الفلسفية التي قامت عليها الديمقراطية التمثيلية من قبيل: الشعب والإرادة والمصلحة العامة من خلل خطير؛ فهو يفتح الباب لإقصاء قطاعات من الشعب تحت دعاوى التمييز الذي قدمه بين “شعب المواطنين” وبين بقية الشعب الذي هو على حد وصفه “رعايا”.
يعرّف المرزوقي شعب المواطنين بأنه “الجزء من الشعب الذي لا يسلّم في أي من حقوقه السياسية والاجتماعية والثقافية مهما تعرض لعنف الدولة، ولكنه يضطلع بواجباته المدنية والسياسية دون أدنى إكراه”. وفي مقابل ذلك أغلبية شعوبنا مكوّنة من “رعايا” أي أشخاص تخلوا عن جلّ حقوقهم السياسية والاجتماعية خوفا من القمع، وينتقمون لانتهاك حقوقهم بالامتناع عن الاضطلاع بواجباتهم إلا مع أكبر قدر من الإكراه.
المشكلة من وجهة نظري في السياسة العربية هي عدم القدرة على تنظيم الناس أو الفئات الاجتماعية على مصالح محددة؛ فلا شك أن كل فرد يعرف مصلحته جيدا، ولكننا عادة نتجاوز هذا الانقسام على المصالح نحو انقسامات أخرى لا تنتج سياسة حقيقية، وأقصد بذلك الانقسام على أسس عرقية أو جهوية أو هوياتية أو ثقافية.
أظن أن التحدي الأساسي الذي يواجه السياسة الديمقراطية في العالم العربي هو قدرتها على استدعاء المواطنين جميعا وليس عبر التمييز بين “الرعايا” و”المواطنين” على أساس المصالح الاقتصادية والاجتماعية، والتدافع فيما بينهم مما ينتج تقاسم السلطة والثروة اللذين هما جوهر الديمقراطية -كما أفهمها.
فاعلية الثورة المضادة تحققت بسبب قدرتها على التنظيم كما أشار المرزوقي، وأيضا لأن مصالحها كانت متبلورة واستطاعت أيضا أن تعبر عن مصالح قطاع من المواطنين فتحقق لها الدعم والتأييد.
فاقم الأمر أن قوى الثورة والتغيير لم تكن تملك برنامجا للتعبير عن مصالح الفئات المهمشة التي أيدت الثورات في بدايتها، لكنها سرعان ما تخلت عنها حين لم تجد مطالبها فيها.
للأسف، لا يزال المرزوقي يصدر عن تصور احتجاجي؛ ففي آخر مقال له يدعونا إلى المقاومة والعصيان المدني، في حين أن المطلوب هو القدرة على إدارة الدولة بتقديم سياسات تنحاز للفئات المهمشة التي يجري إقصاؤها اجتماعيا واقتصاديا باستمرار.
- الثالث: لم يضع المرزوقي مناقشته في سياق عالمي أوسع. هنا يمكن أن نشير إلى ملمحين مهمين:
-
- تطلع شعوب المنطقة للقيم الإنسانية العامة هو تطلع إنساني عالمي؛ لذا يصبح المطلوب ليس التنسيق بين القوى الديمقراطية على مستوى وطني أو إقليمي عربي فحسب، بل يجب أن يمتد إلى الاستفادة من تجارب الشعوب الأخرى خارج المنطقة، أو كما ناديت في مقال سابق على موقع الجزيرة نت “يا محتجي العالم اتحدوا” . ما أشار إليه المرزوقي من مشاكل تخص الديمقراطية التمثيلية هو شأن عالمي يخص الديمقراطيات المستقرة كما يتعلق بالناشئة أيضا.
- مشكلة التمثيل وضعف المؤسسات السياسية وغياب القيادات الكاريزمية وانقسام المجتمعات سياسيا وانتخابيا وتطور التكنولوجيا وتأثيرها على الانتخابات …إلخ؛ هذه القضايا مما تجري مناقشتها الآن وتتخذ العديد من الإجراءات والسياسات بما يقلل من الآثار والتداعيات السلبية على هذه النوعية من الديمقراطية.
أقول بمنتهي الصراحة والوضوح أنه لا يمكن التخلي عن الديمقراطية التمثيلية نحو أنواع أخرى من الديمقراطيات التي لم تستقر ملامحها في الواقع. وأخشى ما أخشاه أن يتفق هذا الخطاب مع خطاب الشعوبيين، وإن أرادوا أصحابه غير ذلك. هذا قفز للمجهول ولا يعني هذا بحال عدم معالجة سلبيات الديمقراطية التمثيلية.
- الرابع: الغياب التام لأثر الاقتصاد السياسي على المسألة الديمقراطية. نحتاج أن نجدد مناهج نظرنا للسياسة في العالم المعاصر؛ السياسة الجارية الآن في دولنا ومنطقتنا باتت تصنعها فواعل جديدة بجوار القديمة، وتتحدد ملامحها بخصائص جديدة ومن مادة جديدة، وتصاغ أشكالها وترسم تفاعلاتها في مجالات جديدة وبقضايا لم تكن مطروحة من قبل.
وهكذا؛ فإننا في المنطقة العربية -كما في العالم من حولنا- نشهد إعادة تعريف للسياسة من مداخل جديدة؛ أعادت تحديد خصائصها وفواعلها وخطابها ونوعية الأولويات فيها.
تتقاطع مساحات السياسة -كما شرحته بالتفصيل في كتابي الأخير– بين محددات ثلاثة:
- تطور هيكل الدولة ووظائفها وأدوارها المعاصرة:
فالدولة ليست كيانا مصمتا لا يصيبه التحول والتغير، ولا تجري بين جنباته الصراعات والتنافسات -اجتماعية وسياسية وعلى النفوذ، ولا يصيب مؤسساته التحلل -ليس نتاج عدم اليقين الذي يسود العالم الآن، ولكن أيضا لأن طبيعة الزمن المعاصر لا يمكن أن نتحدث فيه عن الوحدة والتماسك. - اقتصاد السوق أو الرأسمالية في مرحلتها التي تطورت إليها في الزمن المعاصر:
في المنطقة -كما في غيرها- لم يعد مطروحا الثنائيات التي حكمت القرن العشرين مثل اقتصاد مغلق في مواجهة اقتصاد مفتوح، أو اشتراكية في مواجهة رأسمالية، أو قطاع عام في مواجهة قطاع خاص… إلخ. ما كان مطروحا من أسئلة في مجال الاقتصاد كما في موضوعات السياسة والثقافة؛ فالواقع المعاصر أكثر تعقيدا مما كان وقد يطلب ذلك ممارسات وتجارب تتداخل وتمتزج فيها المجالات والقضايا والقواعد التي كنا نظن أنها تتوزع على ثنائيات متناقضة مثل مرج البحرين لا يلتقيان. - تغيرات المجتمع، خاصة في بعدها الثقافي/الديني:
فالجذور العميقة للسياسة تصنع في المجتمع كما ترسم ملامحها من خلال تطورات هيكل الدولة وتغيرات السوق، وهنا يحسن أن نشير إلى أنه لا يمكن التفكير في المجتمع وفق مفاهيم باتت قدرتها التفسيرية ضئيلة من قبيل: الطبقة ومؤسسات التنشئة الاجتماعية وكذا المؤسسات الدينية والنقابات والحركات الاجتماعية والتنظيمات السياسية أو الدينية؛ فكل الظواهر التي عنيت بها هذه المفاهيم وقامت لدراستها تشهد تحولات وسيولة وتشظيا، بالإضافة إلى ما نشأ بجوارها من فواعل ومجالات وأولويات عمل جديدة.
التفاعل بين هذه المحددات الثلاثة يرسم أوضاعا جيو-إستراتيجية مستجدة في الإقليم الذي يحيط بالمنطقة والعالم الذي تحيا فيه.
يتعامل البعض مع هذه العوامل بوصفها مجالات منفصلة، وقليل من يدرك أن التطور فيها جميعا جوهره واحد؛ وهو المراوحة بين الوحدة وبين التجزيء أو التفسيخ. في الوحدة نتكلم عن السيادة المطلقة للدول والسوق الواحد الذي تصنعه الدولة القومية والخطاب الديني الصحيح الذي يتضمن فهما وتفسيرا وحيدا للنصوص الدينية.
التصنيفات الأربعة للتيارات الفكرية والسياسية -قومي وليبرالي وإسلامي ويساري- تجاوزها الزمن ولم تعد قائمة في الواقع، ولا أدري إن كان سمع بها جيل “زد” أو “واي” أم لا؟
لكن وفق منطق التجزيء والتفسيخ فنحن مع سيادة ناعمة أو تلاشٍ للسيادة بالكلية بحكم العولمة وسلاسل التوريد، ودور أكبر للمؤسسات المالية الدولية، وأسواق متعددة لا سوق واحدة: منها ما هو مندمج بالكلية في الرأسمالية والأسواق الدولية، ومنها ما لا يزال تقليديا يقدم خدماته لجمهور محلي ضيق.
أما الخطابات الدينية -واستخدامها بما يفيد التعدد- فانتفت منها عبارات القول السديد والقول الصحيح ليتقدم القول المناسب الذي يتضمن التغير والتبدل والاختلاف على حسب أحوال الناس، لكن الأهم أن ما يحكمها هو “النفع” و”العملية”، وفق منطق الإجابة عن أسئلة الناس العملية والمباشرة، وهو ما يسود في السياسة أيضا.
ألم يحن أن نناقش تأثير هذه العوامل على مسارنا الديمقراطي المعاصر؟
- الخامس: عدم امتلاك فهم أعمق لبني الاستبداد، مع غلبة النظر الفكري النظري وضعف اعتبارات الواقع.
أتفق مع المرزوقي في أن أزمتنا سياسية بامتياز وليست ثقافية أو فكرية. أقول إننا لو أنفقنا على فهم بنى الاستبداد العميقة التي تنتشر في كل جنبات حياتنا وتتساند في ما بينها لضمان استمرارها عشر معشار ما صرفناه من جهد لمناقشات من قبيل الإسلام والديمقراطية والدين والدولة والإسلام والعلمانية؛ لو فعلنا ذلك لتبدلت حالنا إلى أحسن حال.
صرفت جهدي العام الماضي لفهم كيف تنساب بنى الاستبداد إلى الاقتصاد وفي المجتمع، وعلاقتها بالخطابات الدينية التي ننتجها، والمنظور المسيطر على قضايا المرأة، وعلاقة ذلك بجدالاتنا السياسية والثقافية أو ما أطلق عليه “جمهورية الجدل”، وهي الظاهرة التي اختصت بها السياسة في منطقتنا؛ حيث لا تأثير للجدالات التي لا تنتهي، في كل الموضوعات وحول كل القضايا، على القوانين أو السياسات ولا تغيير في الواقع المعيش.
وبعد؛ فإن ما يحسب لمقالات المرزوقي أنها تشحذ الفكر نحو إعادة النظر في ما يسود من تفكيرنا السياسي وهو ما نحتاجه الآن، وقد أعجبني إعادة تصنيف التيارات السياسية من منظور ليس أيديولوجيا وإنما على أساس من يؤمن بالديمقراطية ومن هو ضدها، بل إني تقدمت خطوة فجعلت سردية الربيع العربي المعيار الذي يمكن من خلاله النظر للسياسة وتصنيف القوى السياسية.
مزية ذلك أننا بإزاء تصنيفات جديدة في السياسة العربية لا تنبني على أسس قديمة، إذ إن أخشى ما أخشاه هو أن التصنيفات الأربعة للتيارات الفكرية والسياسية (قومي وليبرالي وإسلامي ويساري) تجاوزها الزمن بمراحل بعيدة ولم تعد قائمة في الواقع، ولا أدري إن كان سمع بها جيل “زد” أو “واي” أم لا؟ وهي الأجيال التي ولدت متواكبة مع الألفية الجديدة.
اكتشاف المزيد من صحيفة 24 ساعة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.