باريس – بكلمات ملونة مكتوبة على الجدران مصحوبة بصور وأوراق هوية وعقود العمل، تُحكى قصص الترحيل والمأوى والمنفى والجنسية، حيث يسافر المتحف الوطني لتاريخ الهجرة في باريس بزواره في رحلة مقسمة إلى 11 نقطة عبور رئيسية من سنة 1685 حتى يومنا هذا للتعريف بتاريخ الهجرة والمهاجرين في فرنسا.
وبعد مرور 3 سنوات على الترميم بميزانية تقارب 2.5 مليون يورو، افتتح المتحف أبوابه في يونيو/حزيران الماضي للانغماس في خط دقيق وموثق يحاول من خلاله كسر الأفكار النمطية والجدل المستمر والدائم حول هذا الملف الشائك رغم كل العقبات والانتقادات.
وفي تسلسل زمني يربط الماضي بالحاضر، ينتقل الزائر بين صور المخيمات تحت الطرق الرئيسية في العاصمة الفرنسية جنبا إلى جنب مع صور الأوكرانيين الذين تم استقبالهم بأذرع مفتوحة، فضلا عن بيانات ديمغرافية من دراسات حديثة تعبر عن تساؤلات وفراغات تنتظر ملأها في يوم ما.
فرنسا.. أرض الترحيب والمنفى
تقول كونستانس ريفيير، المديرة العامة لقصر “بورت دوري”، للجزيرة نت، إن 1 من كل 3 فرنسيين لديه خلفية مهاجرة، سواء هاجروا هم أنفسهم، أو هاجر آباؤهم أو أجدادهم.
وعند العودة إلى نقطة البداية، كانت مملكة فرنسا أرض الهجرة والنزوح منذ نهاية القرن الـ17 حيث استقر الأجانب القادمون من الدول المجاورة لأسباب سياسية أو دينية واقتصادية بشكل أساسي.
وتزامن ذلك مع ازدهار تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي إذ بِيع 1.4 مليون أسير أفريقي ونُقلوا إلى المستعمرات الفرنسية بين عامي 1642 و1848 حيث كانت المزارع تعيش على استعباد الأسرى الأفارقة الذين نجوا من الهجرة القسرية في الممتلكات الفرنسية لجزر الهند الغربية.
وفي مارس/آذار 1685، أصدر الملك لويس الرابع عشر مرسوما خاصا بشرطة العبيد في جزر أميركا الفرنسية، المعروف باسم “الرمز الأسود”، ليجمع ما يقرب من 50 عاما من اللوائح الناتجة عن العادات والتشريعات المحلية.
وفي عام 1789، أسست الثورة الفرنسية “المواطنة السياسية” للاعتراف بالحقوق المدنية وليتمتع الأجانب بحرية التعبير والتجمع لكنهم ظلوا مستبعدين من حق التصويت رغم منحهم تسهيلات للحصول على الجنسية وممارسة الوظائف العامة.
ومع بداية القرن الـ19، شهدت البلاد منعطفا جديدا من الهجرة عندما أدت الثورة الليبرالية إلى وصول آلاف المنفيين السياسيين الأوروبيين، معظمهم بولنديون هاربون من القمع الروسي.
المهاجرون.. يد فرنسا في الحروب
يرفع المتحف الستارة عن أجزاء غير معروفة في تاريخ الهجرة، بما في ذلك عام 1889 الذي أصبح فيه قانون العمل المزدوج إلزاميا وشهد وصول الأجانب إلى فرنسا للعمل، ما أدى إلى ولادة “أزمة كراهية الأجانب ومعاداة السامية”.
وبعدها بقليل، أتت الحرب العالمية الأولى لتقلب أحوال المهاجرين وتجبرهم على تحمل أوضاع صعبة، بما في ذلك التحكم في تحركاتهم واستعادة جوازات سفرهم مع التأشيرات، حتى إن مواطني “القوى المعادية” أجبِروا على الاختيار بين مغادرة البلاد على الفور أو الاعتقال.
وقد أدت كل هذه الأحداث إلى تسريع ظهور ما يسمى بـ”تصريح الإقامة” أو بطاقة الهوية الخاصة بالأجانب التي تسمح ببقائهم في البلاد والعمل فيه وفق قانون وسياسات الهجرة الفرنسية. وبحلول عام 1931، كان يعيش في فرنسا 2.7 مليون أجنبي، أو ما يعادل 7% من السكان، معظمهم من إيطاليا وبولندا.
وفي خضم الحرب العالمية الثانية، شارك في التحرير أجانب ومقاومون مستعمرون في صفوف الجيش الفرنسي. وفي الفوضى التي أعقبت الاستسلام الألماني، وجدت باريس نفسها في قلب عمليات النزوح الجماعي التي غيرت وجه الهجرة.
وأكدت المديرة العامة لقصر “بورت وري” أن الهجرة العربية آنذاك كانت مهمة جدا لفرنسا، خاصة خلال الحربين العالميتين؛ إذ تمكنت البلاد من تحرير كورسيكا وبروفانس بفضل دور الجنود القادمين من شمال أفريقيا.
1962.. إعادة الإعمار وإنهاء الاستعمار
في فترة ما بعد الحرب مباشرة وبينما انخفض عدد الأجانب في فرنسا بشكل كبير (بسبب العائدين إلى بلادهم والتجنيس)، بدأت دورة هجرة جديدة بين عامي 1947 و1975، تضاعف خلالها عدد المهاجرين من 1.7 مليون إلى 3.4 ملايين.
ولفتت ريفيير، في حديثها للجزيرة نت، إلى أن “المهاجرين ساهموا في بناء فرنسا مرات عديدة، خاصة بعد انتهاء الحرب، وكانوا في الخطوط الأمامية في وقت الأزمات حيث استمروا في العمل، وغالبا في وظائف صعبة وغير مرئية”.
وقد شكل استقلال الجزائر في الخامس من يوليو/تموز 1962 حركة الهجرة بمفهومها الأوسع؛ حيث أعيد 800 ألف فرنسي وأوروبي من الجزائر للاستقرار في فرنسا، وأطلق عليهم آنذاك اسم “العائدون” في أكبر نزوح جماعي عرفته البلاد على الإطلاق.
وعلى إحدى جدران المتحف، كُتبت مقولة للمناضل الجزائري مصالي الحاج الذي عارض ضم بلاده إلى فرنسا “هذه الأرض المباركة لنا وليست للبيع ولا للشراء ولا للرهن.. ورثتها هناك وسيراقبها نجم شمال أفريقيا”.
في المقابل، شهدت السبعينيات زيادة في الهجمات العنصرية والجرائم في فرنسا. ففي أعقاب الأزمة التي سببتها الصدمة النفطية عام 1973، كانت الحكومة الفرنسية تعتزم السيطرة على تدفقات الهجرة وقررت تعليق هجرة العمالة.
وعندما كان فاليري جيسكار ديستان رئيسا للجمهورية، أصبحت سياسات الهجرة أكثر صرامة وارتفعت عمليات الطرد مع إنشاء نظام احتجاز إداري والرغبة في استبدال المهاجرين بالعمالة الفرنسية. ونتيجة لذلك، تحركت النقابات العمالية واليسار وبعض الأحزاب اليمينية ضد سياسة الإعادة القسرية.
وفي أعقاب مايو/أيار 1968 والتعبئة ضد الاستعمار، تشكلت حركة للدفاع عن حقوق العمال المهاجرين للمطالبة بعدة أمور، بما في ذلك إدانة الجرائم العنصرية والحصول على سكن لائق ووضع قانوني مستقر، وعدالة اجتماعية في المصانع، فضلا عن تمثيل المهاجرين في النقابات.
الأجيال الثلاثة والنضال من أجل الحقوق
بعد انتخاب فرانسوا ميتران عام 1981 ونجاح اليسار في الانتخابات التشريعية، سوّت الحكومة أوضاع 135 ألف مهاجر غير شرعي. كما منحت حق تكوين الجمعيات للأجانب وعلقت عمليات الطرد وألغت الإجراءات القمعية بشكل جزئي.
ويمكن القول إن هذه الفترة من تاريخ فرنسا تميزت بالغليان بين التعبئة ضد كراهية الأجانب والعنف العنصري وظهور ثقافة سياسية وحضرية وفنية جديدة.
وهو ما نراه جليا في إحدى محطات المتحف الوطني لتاريخ الهجرة الباريسي؛ حيث خُصصت قاعة للفنانين العرب والأجانب تضم مقطوعات موسيقية اشتهروا فيها، مثل وردة الجزائرية وأم كلثوم وفرقة ناس الغيوان من المغرب.
من جهة أخرى، ساعدت المسيرة من أجل المساواة ومناهضة العنصرية عام 1983 في جعل أحفاد المهاجرين أكثر حضورا في الفضاء العام، ليصبح تصريح الإقامة لمدى 10 سنوات جاريا حتى اليوم. كما شهد نفس العام الانتصارات الأولى للجبهة الوطنية، وهو حزب سياسي يندد بالهجرة.
وفي سياق متصل، تحولت مشاكل الضواحي إلى موضوع حقيقي للنقاش السياسي ورمزا لصعوبات السياسات الحضرية والاندماج مع تزايد عدد عائلات الطبقة الوسطى.
أما فيما يتعلق بحق الإقامة وحق اللجوء للأجانب، فقد أصبح أكثر صرامة منذ بداية الثمانينيات؛ إذ استمرت الدولة في تطبيق عدد من القرارات، مثل استئناف عمليات الطرد وتصفية حالات الدخول، بينما يخضع قانون الجنسية لتسييس مكثف.
وعلى المستوى الأوروبي، كانت الأمور أكثر مرونة مع دخول اتفاقية شنغن حيز التنفيذ عام 1995، ما ضمن حرية التنقل بدون جوازات سفر بين الدول الأعضاء.
الحاضر.. بين الضيافة والحزم
منذ عام 2011 وفي أعقاب ثورات الربيع العربي والحروب في ليبيا وسوريا، وصل مئات الآلاف إلى بوابات أوروبا بعد عبور البحر الأبيض المتوسط ويستقر بعضهم في فرنسا ويتقدمون بطلب الحصول على اللجوء فيها.
وفي مواجهة هذه الأزمة، كانت ردود أفعال الدول الأوروبية متناقضة بين حسن الضيافة والحزم. وفي مارس/آذار 2016، تم توقيع اتفاقية مالية مع تركيا تُلزمها بالاحتفاظ بأغلبية طالبي اللجوء على أراضيها.
وفي حديثه للجزيرة نت، يحكي طالب اللجوء العراقي حسنين عن الصعوبات التي يواجهها في باريس قائلا “طلب مني مكتب اللجوء أوراقا كثيرة وكل شيء أصبح صعبا للغاية. ما زلت أنتظر الرد وحياتي معلقة بكلمة واحدة ستقرر مصيري للأبد”.
وأضاف حسنين “إذا طلب مني أي شخص نصيحتي حول الهجرة، فلن أشجعه على المجيء، حتى لو اضطر لأكل الحجر والتراب في بلده”.
وفي مارس/آذار 2022، أطلقت الحكومة الفرنسية منصة رعاية خاصة تسمح للمواطنين بالتعبئة لاستقبال الأوكرانيين في فرنسا وتوفير السكن والمدارس للأطفال وفرص العمل للكبار، في حين لا تزال مخيمات المهاجرين الآخرين -خاصة في كاليهـ شاهدة على المفارقة الكبيرة وعدم تكافؤ الحقوق في تاريخ الهجرة.
اكتشاف المزيد من صحيفة 24 ساعة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.