ربما لم تكن تعرف ذلك، لكن يونيو/حزيران 2023 حصل على لقب جديد وهو “يونيو الأكثر سخونة على الإطلاق” وفقا لتحليل درجة الحرارة العالمية التابع لوكالة الفضاء والطيران الأميركية (ناسا) وعدة هيئات أخرى حول العالم، ربما أيضا لم تعرف أن أول أسبوع في شهر يوليو/تموز الحالي سجَّل رقما قياسيا جديدا كونه الأسبوع الأكثر حرارة على الإطلاق في العالم أجمع، وربما كذلك لم تكن تعرف أن ما تمر به بينما تقرأ هذه الكلمات من حرارة شديدة لا يحدث فقط في بلدك أو حتى في العالم العربي الأوسع، فالكثير من دول العالم تمر بموجة حارة تاريخية في الوقت الراهن!
صيف تاريخي
في الصين على سبيل المثال، سجَّل الأسبوع الماضي أعلى إنتاج من الكهرباء على مستوى البلاد بينما تصارع موجة حر شديدة، حيث أعلنت مؤسسة استثمار الطاقة الصينية، وهي أحد أكبر مولدات الطاقة التي تعمل بالفحم في العالم، أن إجمالي توليد للكهرباء بلغ 4.09 مليارات كيلوواط/ساعة في يوم الاثنين 11 يوليو/تموز، بزيادة قدرها 210 ملايين كيلوواط ساعة عن اليوم السابق.
وعلى الجانب الآخر من العالم، انطلقت التحذيرات في أجزاء متفرقة من جنوبي وغرب الولايات المتحدة الأميركية عبر الإنترنت وقنوات التلفزيون خوفا من مستويات حرارة “خطيرة” قد تضر بصحة ثلث السكان (نحو 110 ملايين شخص)، تحذيرات شبيهة حمراء اللون انطلقت في وسائل الإعلام لست عشرة مدينة في جميع أنحاء إيطاليا، حيث لا يزال جنوب أوروبا يعاني من درجات حرارة شديدة الارتفاع. تعني التنبيهات الحمراء أنه حتى الأشخاص الأصحاء قد يتعرضون للخطر بسبب الحرارة، ونصحت الحكومة الإيطالية الموجودين في مناطق التأهب بتجنب أشعة الشمس المباشرة بين الساعة 11 صباحا و6 مساء.
إلى جانب ذلك عانت العديد من المناطق في فرنسا وإسبانيا من درجات حرارة قصوى، مع تقارير عن انهيار السياح في اليونان، حيث وصلت درجات الحرارة إلى 40 درجة مئوية أو أعلى، أما في الوطن العربي فلا حاجة لنا لإخبارك، حيث من المحتمل أنك تشعر بالأمر الآن، وأن هيئة الأرصاد في دولتك قد أعلنت عن درجة حرارة أعلى من 40 بفارق واضح.
كل هذا ولم نتحدث بعد عن موجة الحر التاريخية التي ضربت أوروبا العام الماضي وتسببت في قتل 60 ألف شخص بحسب دراسة صدرت مؤخرا في دورية “نيتشر ميدسن”، والسبب في ذلك هو أن المشكلات الصحية المتعلقة بالموجات الحارة ترتبط بدرجات الرطوبة، فكلما ارتفعت الرطوبة كانت درجات الحرارة الأقل أكثر تأثيرا، يشرح ما يسمى مؤشر الحرارة تلك الفكرة، وهو مؤشر يجمع بين درجة حرارة الهواء والرطوبة النسبية في محاولة لتحديد درجة الحرارة التي يشعر بها الإنسان حقا.
في نشرة الأخبار يمكن أن تلاحظ قولهم إن درجة الحرارة في الأسبوع المقبل مثلا ستكون 35 لكنك ستشعر وكأنها 40 درجة، هذا الفارق يُمثِّل تأثير الرطوبة على رفع الشعور بالحرارة. ويُعرف مؤشر الحرارة “الخطير” على أنه شعور الحرارة الذي يزيد على 39.4 درجة مئوية، ويُعرف مؤشر الحرارة “شديد الخطورة” بمعيار 51 درجة مئوية، ويُعَدُّ كلٌّ منهما غير آمن للإنسان لأي فترة زمنية مهما كانت قصيرة.
في حال تعرض الشخص لهذه المستويات من الحرارة فقد يتسبب الأمر في مشكلات طبية تبدأ بأعراض العطش والجفاف وقد تصل إلى صدمة حرارية يصاب خلالها الشخص بصداع شديد وتهيج في الجلد وفقدان للتركيز، وإذا استمر الأمر يمكن أن نصل إلى مرحلة فقدان كامل للوعي مع اختلاجات قد تؤدي إلى الوفاة في النهاية.
هل هو التغير المناخي؟
لكن المشكلة الحقيقية ليست فيما حدث أو ما يحدث للأسف، بل فيما هو قادم، حيث يتوقع بعض المتخصصين في هذا النطاق أن شهري يونيو/حزيران ويوليو/تموز يفتحان الباب لموجة حر إضافية في شهر أغسطس/آب يمكن أن تكون استثنائية إذا استمر صيف 2023 على هذا المنوال!
يُجمع العلماء في هذا النطاق على أن ما يحدث منذ يونيو/حزيران وحتى الآن ليس إلا تمظهرا واضحا للمشكلة الكبرى التي يواجهها كوكب الأرض حاليا: التغير المناخي، لكن الموضوع يكون عادة أعقد قليلا مما قد تظن، فمثلا في منطقتنا العربية نتأثر كل عام بالموجات الحارة في مثل هذا الموسم منذ زمن طويل، لكن المشكلة ليست في الموجة الحارة نفسها، بل في ما يُحدثه التغير المناخي بها.
على سبيل المثال، استخدم فريق بحثي من جامعتي واشنطن وهارفارد الأميركيتين في دراسة نُشرت العام الماضي بدورية “كومينيكيشنز ايرث آند انفيرونمنت” التابعة للمؤسسة البحثية “نيتشر”، نهجا إحصائيا جديدا يجمع بين البيانات التاريخية لتطور درجات الحرارة والتوقعات الديمغرافية والنمو الاقتصادي المرتبط بما يسمى “كثافة الكربون”، وهي كمية الكربون المنبعثة مقابل كل دولار من النشاط الاقتصادي، ليتوصلوا إلى نتيجة مفادها أن الأيام شديدة الحرارة، التي تُمثِّل درجة كبيرة من الخطورة على الجسم البشري، ستصبح أكثر شيوعا بحلول نهاية هذا القرن.
وبحسب هذه الدراسة، فإنه حتى إذا تمكنت دول العالم من إيقاف متوسط ارتفاع درجة الحرارة العالم عند حد 1.5 أو درجتين مئويتين بحسب اتفاقية باريس، فإن تجاوز الحد “الخطير” للحرارة سيكون أكثر شيوعا بمقدار ثلاث إلى عشر مرات، وفي حالة استمرار تصاعد ارتفاع متوسطات درجات الحرارة دون تدخل سياسي فإن الدراسة تتوقع أن عدد الأيام الخطيرة للغاية سيصل إلى 30-40 يوما في السنة، وهي أوقات سيكون محظورا تماما على الناس الخروج إلى الشارع خلالها، وهذا بالطبع يؤثر على معاشهم، واقتصاد الدول بالكامل.
يتأكد ذلك بدراسة أخرى بقيادة فريق من جامعة هاواي جاء فيها أن أكثر من 30% من سكان العالم يتعرضون لمدة 20 يوما على الأقل لظروف حرارية تتجاوز عتبة التعرض لخطر الوفاة، وبحلول عام 2100 سوف ترتفع تلك النسبة إلى 48% في حال أخذنا حذرنا وبدأنا في التقليل من نفث غازات الصوبة الزجاجية (الغازات الدفيئة المسببة للاحتباس الحراري) بالغلاف الجوي، وستصل إلى 74% في حال ظل السيناريو الحالي لأفعالنا ولاستجابات الطبيعة قائما، يبدو إذن أن التهديد المتزايد للحياة البشرية من الحرارة الزائدة هو كارثة حتمية تقريبا، ولكن سيزداد تفاقما إذا لم تنخفض غازات الصوبة الزجاجية إلى حدٍّ كبير.
تلك هي المشكلة التي نتحدث عنها، فموجات الحر تحدث من حين إلى آخر، لكن التغير المناخي يرفع من معدلاتها فتحدث أكثر، وكذلك من شدتها فتتجاوز أرقاما قياسية، وطول مدة الواحدة منها، فتطول الموجات الحارة لأسابيع وشهور وليس أياما كما اعتدنا قديما. لنأخذ الولايات المتحدة نموذجا مدروسا جيدا، ففي السنوات الأخيرة كان متوسط موجة الحرارة عبر 50 مدينة في بالولايات المتحدة أطول في المجمل بنحو 49 يوما مما كان عليه الأمر في الستينيات، وكذلك أصبحت موجات الحرارة أكثر حِدَّة بمرور الوقت.
الأمر لا يتوقف على الحرارة
ولا يتوقف الأمر على الحرارة للأسف، بل يصل إلى كل شيء، فقط تخيل أن المنظومة البيئية بالكامل هي مجموعة من الأجراس الموزعة على مسافات متساوية صغيرة (متر واحد بين كلٍّ منها) في مساحة واسعة مربعة تساوي 10 ملاعب كرة قدم، وأن كل واحد من هذه الأجراس يحوي حساسا دقيقا يمكن أن يستشعر أي صوت قريب، وما إن يفعل ذلك حتى يطلق هو صوتا بدوره.
الآن تخيل أننا في حالة صمت تام، لكن أحد هذه الأجراس في الطرف الأيسر من تلك المساحة قد أطلق صوتا فجأة، هنا سيقوم المستشعر في الأجراس القريبة منه بتفعيل خاصية إطلاق الصوت، ويؤثر ذلك بدوره على الأجراس المجاورة للأجراس الأخيرة، وهكذا دواليك حتى تدخل كل الأجراس في حالة فوضى.
الأمر ذاته بالنسبة للتغير المناخي، ارتفاع طفيف في درجات الحرارة يتسبب في خلل بكل شيء في بيئتنا، ولنبدأ مثلا من من أقرب المأكولات إليك، الأرز على سبيل المثال، حيث وجدت دراسة صادرة في 2018 عن وزارة الزراعة الأميركية أن درجات الحرارة المرتفعة قد تؤدي إلى خفض محصول الأرز بنسبة تصل إلى 40% بحلول نهاية القرن الحالي، حيث يؤدي الإجهاد الحراري الناتج عن ارتفاع درجة الحرارة في الموجات الحارة إلى تغيرات فيسيولوجية في نبتة الأرز تؤدي إلى عقم الزهيرات.
ويجري ذلك على كل ما نعرف تقريبا من نباتات، بداية من القمح ووصولا إلى القهوة، فدرجات الحرارة المرتفعة تؤدي إلى زيادة الجفاف بنسبة أعلى من المعتاد ما يزيد من إجهاد النبات، كما أن الاحترار العالمي يخل بمواعيد إزهار النباتات، ويؤدي كل ما سبق بالتبعية إلى نقص واضح في الإنتاج، وبالتبعية غلاء الأسعار.
وينطلق الأمر ليؤثر على الحياة البرية، فمعدلات انقراض الأنواع في كوكب الأرض ارتفعت بقيمة 1000-2000 مرة عن الطبيعي، وفي كتابها “الانقراض السادس” تشير الصحفية المعنية بشؤون البيئة والحائزة على جائزة بوليتزر إليزابيث كولبرت إلى أن هذا هو أول انقراض كوكبي يقوده الإنسان عبر مساهمته في تغيير طبيعة الكوكب، وبشكل أساسي عبر نفث الغازات الدفيئة المسببة لاحترار الغلاف الجوي.
ويمكن لو مددنا الخطوط على استقامتها أن نلاحظ أن ما سبق يمكن أن يقود إلى مشكلات سياسية، وقد أشارت بعض الأبحاث في هذا النطاق إلى أن الاضطرابات السياسية التي حدثت في سوريا مثلا عام 2011 كانت متعلقة (إلى درجة ما لم تحدد بعد) بموجة جفاف سابقة لهذا التاريخ ولمدة ثلاث سنوات، وكانت الأقسى منذ عقود. ويرى كريستيان بارينتي، الصحفي الاستقصائي الأميركي، في كتابه “مدار الفوضى” أن الأمر لن يتعلق بدولة واحدة فقط، بل يمكن أن تتسبب التغيرات المناخية في موجة توتر سياسي شديدة وخاصة في الدول التي تقع بين مداري الجدي والسرطان.
يتبقى في هذا السياق أن تعرف أن إجماع العلماء في نطاق التغير المناخي هو أن النشاط البشري له دور رئيسي في كل هذا، عبر استخدام الوقود الأحفوري الذي ينفث الغازات الدفيئة في الغلاف الجوي، لكن المشكلة للأسف ليست فيما يُجمع عليه العلماء، بل في اتخاذ قرارات سياسية مناسبة لإيقاف الأمر عند هذا الحد، وإلى لحظة كتابة هذه الكلمات لم تجتمع دول العالم على هذا القرار، نحن لازلنا في مرحلة الجدل السياسي حول ما ينبغي فعله بشأن التغير المناخي، وهي مرحلة نأمل ألا تطول أكثر من ذلك.
اكتشاف المزيد من صحيفة 24 ساعة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.