“نتوقع أن نضيف تعديلا طفيفا في مباراة العودة، لديّ فكرة نوعا ما عما يجب أن نفعله في تلك المباراة”.
(بيب غوارديولا)
رغم إعجاب بيب بمردود فريقه في المباراة أمام ريال مدريد في البرنابيو، فإن هذا لم يهدئ من روع الكمالي المزعج الذي يقطن بداخله؛ قائلا إنه بحاجة إلى تعديل أو اثنين في مباراة العودة في ملعب الاتحاد بعد أقل من أسبوع من الآن. (1)
لكن، لِمَ لا نصغي ولو لمرة إلى ناشد الكمال هذا؟ ونحاول أن نضع ما “قد” يفكر به بعين الاعتبار؟ هنا علينا تذكيرك بأنه رغم الشوط الأول المميز الذي لعبه السيتي بالإضافة إلى بعض فترات الشوط الثاني، فلم يستطع الفريق خلق فرص محققة طوال اللقاء حقا، وإذا لم تكن إحصائية الأهداف المتوقعة لمانشستر سيتي (0.6)، وهي الأقل للفريق في مباراة واحدة هذا الموسم، دليلا على ذلك، فما الدليل إذن؟ (2)
يعود ذلك إلى العديد من العوامل التي تحدث عنها بيب لاحقا في المؤتمر الصحفي ما بعد اللقاء؛ مثل أدوار توني كروس وفيدي فالفيردي في مراقبة كيفن دي بروين وإلكاي غوندوغان بشكل لصيق، للحد من خطورة تحركاتهما في الممرات الداخلية بين قلب الدفاع والظهير في كلتا الجبهتين، وهكذا، استطاع قلبا الدفاع التركيز على المهمة الأصعب الموكلة إليهما؛ مراقبة إرلينغ هالاند وحرمانه من المساحة الكافية لفعل ما يفعله عادة.
ربما إن أنصتنا لصوت المثالية لدى بيب، وهوسه بالتفاصيل، قد ندرك أنه يستطيع إصلاح بعض الأمور التي رأيناها في البرنابيو.
حركية أكبر
تحدث بيب ذات مرة عن نقاط قوة كيفن دي بروين، وكانت أبرزها الحركية، وهي ما يستعيض به عن نقاط ضعفه في الاحتفاظ بالكرة تحت الضغط وفي المساحات الضيقة، وهذا ما يجعل الأمور أصعب بالنسبة إليه عندما يواجه سيتي خصوما يتسمون بالتقارب الشديد في الخطوط أفقيا وعموديا، فلا يجد المساحة المناسبة لإيذاء الخصم بتمريراته، وربما لا يستطيع زملاؤه منحه تلك الحرية باستمرار. (3)
لهذا يحاول بيب دوما إيجاد السياقات المناسبة للبلجيكي لكي يستغل أوجه قوته، فمثلا عندما يقوم الجناح باحتضان الخط وتوسيع رقعة الملعب على الخصم -والجميع يعلم أن أجنحة السيتي تتمتع بقدرات فنية عالية- فنستطيع القول إنهم سيلفتون انتباه لاعب أو اثنين من الخصم على الأطراف، مما يجعل الفرصة سانحة لكيفن في استغلال المساحة خلفهم، في الممرات الداخلية عادة، ويصبح لديه التفوق المركزي اللازم ولو لثوانٍ قليلة للعب العرضية، وبخّ السم في وجه خصومه.
بالعودة إلى أدوار كروس وفالفيردي، فلم تسنح الفرصة لكيفن للتحرك بحرية كما جرت العادة، فكان ثنائي الميرينغي يلتصقان به وبغندوغان أيضا كما أسلفنا، مما حرمهما من التفوق المركزي، وهنا علينا أن نتذكر ما قاله بيب عن دي بروين إنه لا يستطيع التحكم في النسق، وإنما يتسم بالديناميكية، فهو يأتي من الخلف، ولديه القدرة على الإنهاء، ولعب العرضيات بالطبع وخلافه، “تحكم أقل، وحركية أكبر بكثير” كما قال بيب. (3)
إذن، ربما ما يفكر به بيب هو محاولة إيجاد سياقات التفوق المركزي بشكل أفضل لكيفن، وإذا نظرت إلى إحدى محاولات سيتي في بداية الشوط الثاني، ورأيت التحركات التي قام بها اللاعبون وما أدت إليه، فربما ستفهم ما نقصده، أو بالأحرى ما يريده بيب، والصوت الساعي إلى الكمال بداخله.
ربما تسببت تلك الحركية في اللقطات أعلاه في أخطر لحظات السيتي في اللقاء بأكمله، رغم وقوع كيفن في مصيدة التسلل في النهاية، وكان هذا هو ما ينقص السيتي في الشوط الأول تحديدا رغم التهديد المستمر -المتعجل نوعا ما- لمرمى تيبو كورتوا، وعليهم إيجاد تلك الانسيابية مرة أخرى قبل موقعة الاتحاد، وإلا فقد يكرر التاريخ نفسه.
مقامرة ستونز
حسنا، نعلم أن دور جون ستونز داخل منظومة السيتي اختلف عما كان عليه قبلا، لكن هذه ليست أول مرة يلعب بها ستونز دورا مغايرا لدوره الأصلي مدافعا، فقد لعب ظهيرا سابقا مع بيب ذاته، والآن يلعب ظهيرا وهميا في مرحلة البناء، إذن لا مانع من أن يلعب ظهيرا فعليا عندما يستحوذ السيتي على الكرة في ثلث الخصم الأخير، أليس كذلك؟
مرة أخرى، نعود إلى كيفن. أحد أسباب معاناة البلجيكي على تلك الجبهة في مباراة الريال هو أنه لم يلقَ المساندة العددية المناسبة أمام كامافينغا وكروس ومودريتش في أحيان كثيرة، بجانب ألابا الذي ينشط على تلك الجبهة أيضا ولكن أقرب للعمق، إذن لم لا يُستغل ستونز هنا؟
لِمَ لا نتخيل ستونز وهو يقوم بمجاوزة خارجية أو داخلية يسحب فيها أحد اللاعبين المذكورين من جانب الميرينغي لكي يوجد تلك الثغرة التي يستطيع كيفن دي بروين استغلالها بالشكل الأنسب؟ فإذا كانت مجاوزة خارجية، فيستطيع البلجيكي لعب العرضية من الممر الداخلي الأيمن، وإذا كانت داخلية، ساعتها يستطيع هو القيام بالمجاوزة الخارجية ولعب العرضية من أقصى الجانب الأيمن، وفي كلتا الحالتين، ستصل الكرة غالبا إلى منطقة الجزاء، وحينها سيسعى أنشيلوتي -على الأغلب- إلى زيادة لاعبيه عدديا داخل المنطقة في الحالة الدفاعية كما رأينا في أحيان كثيرة في مباراة الذهاب.
بسبب ذلك، يستطيع رودري بالإضافة إلى ثلاثي الدفاع أن يقوموا بالغلق الوقائي على بنزيما وفينيسيوس ورودريغو أيضا. ربما في الأمر بعض المخاطرة، والمخاطرة ليست من شيم بيب، لكن لكل شيء مرة أولى.
قليل من الحِدَّة لا يضر
لا نستطيع القول إن السيتي ليس بالفريق الحاد، سواء تعلق الأمر بمراحل حيازة الكرة أو المراحل الدفاعية خارج الحيازة، ولكن جرعة صغيرة زائدة من الحِدَّة لن تضر أحدا، خاصة عندما يتسبب التراخي فيما لا يحمد عقباه؛ فربما يحدث تحول هجومي خطير، وربما تتغير وجهة اللعب لإيجاد موقف واحد ضد واحد في مساحة كبرى، وربما ينتج عنها فرصة محققة، كما كاد يحدث في مرات عديدة في المباراة.
أثناء الترحيل، على الفريق أن يتحلى بالتركيز قدر الإمكان، فهو يزيد التحميل العددي على إحدى الجبهات، بالتالي يوجد هذا مساحة مواتية على الجانب الآخر حال قرر أحد لاعبي الخصم تغيير وجهة اللعب إلى ذلك الجانب، وهنا ظهرت إحدى مشكلات مانشستر سيتي أمام الميرينغي.
في الحالة أعلاه، تمكَّن الريال من التخلص من ضغط السيتي على الجبهة اليسرى للميرينغي، وبسبب التراخي من كيفن في تلك اللقطة؛ في الضغط على توني كروس أو محاولة غلق مسار التمرير إليه، ذهبت الكرة بسهولة إلى اللاعب الألماني، وقام بتغيير وجهة اللعب عند رودريغو على الجانب الآخر، في موقف واحد ضد واحد مع مانويل أكانجي، مستغلا تحرك كارفخال الداخلي.
كانت محاولات تغيير وجهة اللعب من جانب ريال مدريد عديدة، وقد أشار إليها بيب في المؤتمر الصحفي بعد المباراة، أي إنه بالتأكيد لم يعجبه اتباع الميرينغي لذاك النمط بكثرة وبوضوح، ولم يتمكَّن لاعبو السيتي أغلب الوقت من إيقاف تلك المحاولات بسبب ضعف التركيز والحِدَّة نوعا ما، وهذا شيء لا تستطيع أن تحمد عقباه أمام ريال مدريد بالذات.
العامل “ألفاريز”
حسنا، لن نقص عليك أرقام الرجل، مع أنها مثيرة للإعجاب حقا، ولكن علينا أن نلفت النظر إلى ألفاريز بوصفه خيارا محتملا لمباراة العودة، ليس في التشكيل الأساسي بالضرورة، وقد يكون الأمر حسب مجريات اللقاء، فربما لن يحتاج إليه بيب لسبب أو آخر، ولكن مما رأيناه في الذهاب، قد يكون ألفاريز عونا لهالاند في تحرره من رقابة مدافعي الريال اللصيقة.
كانت تحركات هالاند في مباراة البرنابيو جيدة، ورغم لمسه للكرة 21 مرة فقط، وهي الأقل من بين لاعبي الفريقين الذين بدأوا المباراة على الأقل، فإن تحركاته كانت توجد مساحات خلف روديجير عندما تصله الكرة بسبب اضطرار المدافع الألماني للخروج من تمركزه ورقابته، لكن لم يستغل أحد تلك المساحات، وهنا تظهر قيمة ألفاريز.
يستطيع الأرجنتيني استغلال مساحات كتلك، وأيضا بتحركاته دون كرة يستطيع لفت انتباه أحد مدافعي الريال أو استغلال انشغالهم برقابة هالاند ليتيح لنفسه الفرصة المواتية للانقضاض على الكرة التي ستصل إليه، ويستطيع التحرك بين الخطوط والمساهمة في إيصال الكرة إلى الثلث الأخير للخصم. ربما لن يلجأ بيب إلى فكرة كتلك منذ البداية، لكنها تستحق الاهتمام عطفا على ما قدمه مدافعو الريال أمام إرلينغ.
معضلة الـ95 دقيقة
“كرة القدم عبارة عن 95 دقيقة، ولا شيء آخر”. (4)
(بيب غوارديولا)
ربما لم تكن سيناريوهات خروج بيب من دوري أبطال أوروبا رحيمة به وبمقاربته للكرة، فتكراره لتلك العبارة أعلاه دليل كافٍ على ذلك. ربما لا يستطيع أحد التعافي بالكامل من حدثٍ كما في الموسم المنصرم في البرنابيو، حينما سجَّل رودريغو هدفين في أقل من دقيقة، ليغير مسار المباراة التي انتهت بتأهل الريال إلى باريس، والفوز بالبطولة الرابعة عشرة. (5)
كرر بيب في هذا المؤتمر أن تلك المباراة ليست انتقاما، وأنها فرصة، وأنها مباراة كرة قدم عبارة عن 95 دقيقة، وكل ما على فريقه فعله هو اللعب جيدا كي يظفروا بالانتصار المنشود، مع إقراره بأنهم لعبوا مباراة استثنائية في الذهاب حينها ومباراة “جيدة” في العودة، ولكن لم يكن الأمر كافيا بالتأكيد حسب تعبيره.
لا نعلم، ربما يعيش الرجل حالة إنكار أو ما شابه، وربما يريد أن يهدئ من روع لاعبيه، لأن ذلك قد ينعكس عليهم في حالتهم أثناء اللقاء، فقد يؤدي هذا الجزع إلى ضعف تركيزهم في أوقات حرجة كما رأينا من رودري أمام فينيسيوس في إحدى لقطات المباراة، التي كانت ستتحول إلى هدف لولا تشتيت روبن دياز.
إذن، ربما يتعلق الأمر بحالة الهدوء التي يحاول بيب زرعها بداخل لاعبيه، لأنه يعلم تماما أن التوتر أمام ريال مدريد لن يجعل الأمر أسهل. هذا ما كان عليه الأمر في المباراة بالفعل؛ فكان التوتر ظاهرا في أبسط القرارات التي يتخذها لاعبو السيتي، من تمرير إلى تسديد إلى تصرفات دفاعية بسيطة. اتسمت جميعها بالجزع والتسرع والخوف ربما؛ الخوف من ارتكاب الأخطاء مرة أخرى أمام الفريق الذي يعلم جيدا كيف يستغل تلك الأخطاء لصالحه، لأنه يمتلك أفضلية ذهنية في تلك المواقف، نابعة من خبراته السابقة في تلك البطولة عبر تاريخه، بجانب الجودة الخارقة التي يمتلكها أيضا.
ربما كان ذاك الكمالي الذي رافق بيب طوال مسيرته أحد أسباب نجاحه منقطع النظير، لكن كما نعلم، لا يتعلق الأمر بعامل واحد أو سبب واحد، بل يتعلق بتلك العوامل والأفكار مجتمعة، وتأثيرها على مجريات اللقاء، وتأثيرها على صفاء ذهن المدرب في تحضير لاعبيه لليوم الموعود، مما قد يساهم في هدوء اللاعبين ورصانتهم ذهنيا في اللحظات التي تحتاج إلى ذلك.
شيء تحدث بيب عنه بوضوح بعد مباراة بايرن ميونيخ في ألمانيا؛ قائلا إن لاعبي فريقه كانوا حاضرين ذهنيا في اللقطات الحاسمة في المباراة، وإن هذا ما كان ينقص الفريق سابقا. ربما ليست فكرة سيئة أن تستمع إلى هذا الصوت بداخلك؛ الصوت الذي يسعى دوما للوصول إلى أعلى النتائج دون التخلي عن دقة العملية التي تؤدي إلى تلك النتائج، حتى لو لم يكن العامل الأهم، فهو لا يزال يهم، فقط اسأل بيب غوارديولا.
_____________________________________________________
المصادر:
- المؤتمر الصحفي لبيب غوارديولا بعد مباراة ريال مدريد – YouTube
- إحصائيات مباريات مانشستر سيتي لهذا الموسم – FBref
- نهوض لاعبي وسط الملعب المقاومين للضغط – Statsbomb
- المؤتمر الصحفي لبيب غوارديولا قبل مباراة ريال مدريد – Manchester evening news
- ريال مدريد يهزم مانشستر سيتي 3-1 ليتأهل إلى نهائي دوري أبطال أوروبا موسم 2021/2022 – BBC
اكتشاف المزيد من صحيفة 24 ساعة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.