تابع الملايين في العالم العربي -نخبا وجماهير- الانتخابات التركية التي أجريت في شهر مايو/أيار الماضي، بما يدعونا للتساؤل: لماذا كانت هذه الانتخابات مهمة للعالم العربي؟
وللإجابة عن هذا التساؤل نستعرض 5 أسباب رئيسية:
أولا: تركيا باتت جزءا من العالم العربي
بحث الفكر الإسلامي والقومي العربي في تنظيرات أواخر القرن العشرين طبيعة العلاقة مع دول الجوار للعالم العربي (إيران وتركيا). كان ولا يزال مسيطرا على هذا التفكير مفهوم النظام الإقليمي العربي؛ فقد كان هناك عالم عربي يتمتع بحد أدنى من التفاعلات المشتركة التي تسمح بإطلاق وصف النظام عليه.
قدم لنا الفكر القومي العربي مفهوم “دول الجوار” لوصف العلاقة بين العرب وكلا من تركيا وإيران؛ في تمييز واضح بينهما وبين العدو الصهيوني. قدم التنظير الإسلامي العربي مفهوم “دول الأركان” لرسم العلاقة مع الجاريْن المسلمين الأقرب للعالم العربي.
ربما صلحت هذه التوصيفات قبل أن تتحول تركيا على مدى العقد الأخير لأن تكون جزءا من التفاعلات المباشرة في العالم العربي خاصة بعد أن وهن مفهوم النظام الإقليمي العربي، حين تصرفت كثير من دوله بلا نظام يجمعها وإنما وفق مصالحها الذاتية الضيقة.
حضرت تركيا بشكل متنام في العقد الأول من القرن العشرين، وبعد تولي حزب العدالة والتنمية التركي الحكم في 2002، باعتبارها نموذجا للديمقراطية الإسلامية. شهدت هذه الفترة أيضا صعودا سياسيا لحركة الإخوان المسلمين في بلدان عدة، وجرت المقارنة بين كلا الطبعتين التركية والعربية من الإسلاميين.
رأى قطاع معتبر من الإسلاميين العرب في الانتخابات التركية محاولة لاستعادة حضورهم بعد أن مروا بهزائم متعددة في حقبة الربيع العربي في كل من مصر والمغرب وتونس والسودان
زاد التبادل التجاري بين تركيا والعالم العربي بما وصل معه إلى أن أصبح تقريبا خمس صادرات وواردات تركيا، وكانت المنتجات التركية -لرخص ثمنها مقارنة بالأوروبية وجودتها- محل إقبال من المستهلك العربي، بما عمّق الثقة في المنتج التركي.
تطوّر الأمر في حقبة الربيع العربي لتكون تركيا جزءا من التفاعل المباشر مع العرب حين دعمت الحراك العربي واصطفت خلف بعض القوى السياسية، خاصة الإخوان في المنطقة، وانحازت لدول على حساب أخرى، كما جرى في حصار قطر، وبالتالي كانت جزءا أساسيا من الاستقطاب وسياسة المحاور الإقليمية التي سيطرت على هذه الفترة وما جرى فيها من انتكاسات أو انقلابات على هذه الانتفاضات.
لم يقتصر الوجود التركي على السياسة والاقتصاد فقط، بل امتزجت فيه القوة الناعمة بالصلبة. تم التعبير عن القوة الناعمة بالمسلسلات التركية -تاريخية واجتماعية- بالإضافة إلى مواقف الرئيس التركي في عديد من القضايا وفي مقدمتها الموقف من القضية الفلسطينية، ويضاف إلى ذلك تنشيط الدور التنموي والإنساني باستخدام المعونات التي فاقت 8 مليارات دولار.
صمم أردوغان تحولًا حازمًا في السياسة الخارجية يركز على توسيع البصمة العسكرية والدبلوماسية لتركيا. وتحقيقا لهذه الغاية، شنت تركيا تدخلات عسكرية في دول من بينها أذربيجان والعراق وليبيا وسوريا.
الوجود العسكري لتركيا في المنطقة متنام باستمرار
- في العراق: تدير قواعد عسكرية في شمال العراق لمحاربة حزب العمال الكردستاني.
- سوريا: تحتل أراضي في الشمال الغربي، وتقاتل المسلحين الأكراد.
- ليبيا: تدعم الغرب الليبي بالمشورة العسكرية والسلاح في مواجهة حفتر وتحالفه.
- قطر: تدير قاعدة وتدرب القوات المحلية.
- لبنان: تساعد عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة.
- الصومال: تدير قاعدة وتدرب القوات المحلية.
- السودان: سعي للحصول على قاعدة في جزيرة سواكن، لولا الانقلاب على البشير عام 2019.
ثانيا: كاريزما أردوغان الخلافية
تمتع أردوغان بقيادة آسرة، ولكنها لم تكن على أية حال توافقية. كانت مواقفه أحد خطوط الصدع في العالم العربي.
دعا الإخوان في مصر للعلمانية في 2012 -حين كانوا في الحكم- مما أثار حفيظتهم، وفي الوقت نفسه كان موقفه حاسما من الانقلاب عليهم في 2013.
من الملاحظات الهامة في هذا السياق هي تعدد جوانب شخصية أردوغان لدى الجمهور العربي؛ فهي لا تقتصر على الجوانب السياسية فقط؛ بل تمتد إلى الأبعاد الدينية.
في استطلاع للرأي أجري في عدد من البلدان العربية عام 2019 حول الشخصيات الدينية التي تتمتع بالثقة، احتل أردوغان موقعا متقدما في جميع البلدان العربية، متفوقا على الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي رحمه الله. وحين سئل المستجيبون: أي من القادة الدينيين أدناه توافق عليه؟ تقدّم أردوغان أيضا على كثير من القادة الدينيين المعروفين في معظم الدول التي أجري فيها الاستطلاع.
نشير هنا إلى أن الخيال السياسي العربي يتطلع للبحث عن زعامة تعبّر عن آماله وتطلعاته. نجح أردوغان في استدعاء قطاع معتبر من هذا الخيال بتصريحاته ومواقفه واستخدامه الكثيف لسياسات الهوية الممتزجة بالاقتصاد.
ربما لا يتحقق الإجماع على النموذج الإسلامي في المثال التركي، لكن ما اتسمت به الانتخابات من نزاهة وإقبال فاق 80% حفّز الغيرة لدى الفصائل السياسية العربية كافة بغض النظر عن انتماءاتها الأيديولوجية
ثالثا: الانتخابات كانت جزءا من الاستقطاب السياسي بالمنطقة ومع الغرب
رأى قطاع معتبر من الإسلاميين العرب في هذه الانتخابات محاولة لاستعادة حضورهم بعد أن مروا بهزائم متعددة في حقبة الربيع العربي في كل من مصر والمغرب وتونس والسودان وغيرها من البلدان. رأى البعض في انتصار أردوغان بحثا للعالم الإسلامي عن “الدولة النموذج”، وليس بحثا للإسلاميين أنفسهم عن نموذجهم المفقود، الذي ضيعوه في الربيع العربي.
نحن بإزاء ما أطلقتُ عليه استبداد النموذج بالخيال الذي يرى تجسده في التجربة التركية في عالم رافض للفكرة الإسلامية ومتآمر عليها ومشوه لها. إن استبداد النموذج الواقعي التطبيقي بالخيال والأحلام يجعل العقل الإسلاموي متماهيا معه دون امتلاك أي رؤية نقدية تسمح بمجادلة هذا النموذج وفق القيم التي يعلنها الإسلام.
وكما استحضر الإسلاميون تجاربهم في حكم دول المنطقة، فإن مناهضيهم أيضا رأوا في الانتخابات التركية فرصة لمحاكمة الإسلاميين في المنطقة، والتأكيد على نهايتهم تماما كما رأى البعض. لم يدرك الطرفان بعمق طبيعة التحالفين المتنافسين في الانتخابات التركية اللذين استطاعا أن يتجاوزا الاستقطاب الإسلامي العلماني والإسلامي القومي، فنجحوا في بناء تحالفات عابرة للأيديولوجيا. لم ينجح العقل العربي في إدراك ذلك لأن تجربته السياسية فشلت في بناء مثل هذه التحالفات.
وهكذا؛ فإن الانتخابات التركية كانت فرصة لاستحضار الاستقطاب حول الإسلاميين مرة أخرى، لكن التغطية المتحيزة وغير المهنية من قطاع كبير من الإعلام الغربي ضد أردوغان سمحت أيضا باستحضار الاستقطاب بين الغرب والعالم الإسلامي.
قدّم أردوغان نفسه في عقده الأول من الحكم كجسر يربط بين الغرب والعالم الإسلامي. يرى البعض أن دور تركيا في الجسر بين الغرب والشرق سيستمر، لكن تركيز أنقرة يمكن أن يتحول الآن إلى “أن تكون راسخة في الشرق ومستعدة للاحتفاظ بالغرب.. على مسافة ذراع”. في هذه الانتخابات استخدمت سياسات الهوية من كل الأطراف، وتلاعب بها الجميع لتحقيق مكاسب انتخابية. صحيح أن الاقتصاد كان هو المحرك الرئيسي للتصويت، إلا أن قضايا الهوية قد أثبتت أيضا مرونتها.
رابعا: أشواق الحرية والمثال التركي
ربما لا يتحقق الإجماع على النموذج الإسلامي في المثال التركي، لكن ما اتسمت به الانتخابات من نزاهة وإقبال فاق 80% حفّز الغيرة لدى الفصائل السياسية العربية كافة بغض النظر عن انتماءاتها الأيديولوجية.
تتبعت قدر المستطاع جدل النخبة المصرية حول الانتخابات التركية، وكان الملمح الأساسي فيها هو الغيرة من التجربة، والمقارنات بين تركيا ومصر، خاصة أن مصر بصدد أن تشهد انتخابات رئاسية في 2024.
جرت المقارنة بين هذه الانتخابات ووقائع الانتخابات الرئاسية في مصر 2012 حين لم تحسم من الجولة الأولى -كما في تركيا- وفاز بها مرشح الإخوان بنسبة ضئيلة مقارنة بمنافسه، كما جرت المقارنة بين وعي الناخبين في كلا البلدين.
هل لا يزال الخيال العربي تثيره وتحركه أشواق الحرية التي دشنتها حقبة الربيع العربي؟ سؤال تعرضنا له كثيرا في مقالات عدة، وكان آخرها المقال الذي نشر قبل أيام على موقع الجزيرة نت، والذي انتهينا فيه إلى استمرار تطلع العرب -خاصة الفئات الشابة والنساء- للحرية والعدالة والكرامة الإنسانية، وهو تطلع إنساني عام.
خامسا: اللاجئون العرب في تركيا
لم تعد الانتخابات التركية شأنا يخص أتراك الداخل والخارج وحدهم، بل سيتأثر بنتائجها 5 ملايين لاجئ نزحوا إليها على مدى العقد الماضي.
كانت قضية اللاجئين في قلب الصراع الانتخابي، وجرى الاستقطاب حولها، وأظن أن كثيرا منهم قد تنفس الصعداء بعد فوز أردوغان. تبني أردوغان خطابا وسطا في هذا الأمر يسمح بالعودة الطوعية والآمنة لهم، خاصة السوريين منهم.
اكتشاف المزيد من صحيفة 24 ساعة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.