(1)
لطالما شكونا الألم، تمنينا أن نعيش من دونه مثلنا مثل الطبيب البريطاني بول براند الذي تبدو قصته عجيبة، صحيح أنه أحب مهنته، لكنه اتبع شغفه، فأوصله إلى ما أوصله، قد يبدو التعبير مستهلكا، لكن هذا هو الواقع، فقد كان لديه سؤال عن الألم، واجتهد ليجد الإجابة.
(2)
عام 1946 يصل إلى لندن الطبيب روبرت كوتشران، بوصفه مشرفا على العمل المتعلق بالجذام في جنوب الهند، ليستقطب جراحا شابا يعاونه، وقد أعجبه بول وأراد أن يرافقه، وهو ما وافق رغبة والدة بول التي كانت تحلم أن يعود ولدها إلى الهند التي نشأ فيها صغيرا، الأمر الذي ساعد عليه الدكتور كوتشران بعدما أقنع اللجنة المركزية لطب الحرب والمسؤولة عن التكليفات بأن يرافقه بول إلى الهند بدلا من تجنيده الإلزامي.
عام 1947 يصل صاحبنا إلى مستعمرة تشينغلبوت المخصصة لمرضى الجذام في مدينة شيناي الهندية، في وقت كان البحث العلمي حول الجذام لا يزال غضا في بداياته.
جولة من الحزن، هذا هو الوصف الملائم لما قام به فور وصوله بعد أن رأى عددا غير مسبوق من الأيدي المبتورة، والسواعد الشبيهة بالمخالب، والأصابع البارزة المتيبسة، والأصابع المنثنية للأسفل بعكس راحة اليد تنغرس فيها الأظافر كالمخالب.
يأخذه مضيفه كوتشران بعد الجولة التفقدية ليريه ورشة الحياكة التي يسلِّي وقته فيها، وهناك يرى صبيا من العاملين يقطر دمه على النسيج الذي يغزله، فيقترب منه ليجد أن أصبعه مقطوع قطعا مريعا، وأن جرحه متعفن بشكل مخيف، يسأله: ألا تشعر بما بك؟ ليجيبه الصبي -بلا مبالاة- بأنه لا يشعر بالجروح ولا بأي ألم من الأصل.
يتعجب مما رآه، ففي كل أُنملة يوجد أكثر من 20 ألف مستشعر للألم، كيف تخدرت جميعا لهذه الدرجة، ومع جرح بالغ كهذا؟ كيف لم تصرخ عظام هذا الفتى وتدفعه للألم؟ وكيف لا يوجد طبيب عظام واحد في مستعمرة للجذام على الرغم من أن هذا المرض يدمر وظيفة العظام بأكثر مما يصنعه شلل الأطفال أو أي مرض آخر؟
الألم هو طبيبنا الأول، هو الذي يحذرنا ويوجهنا إلى الخطوات الصحيحة للتعامل مع الإصابات، لكن المعضلة الحقيقية هي أن الألم صار سيئ السمعة في عالمنا حتى بات الإنسان أضعف من مواجهته، ومن ثم أجهل الناس بفائدته
“أنا لها”، يقرر بول أن يحمل على عاتقه هذه المهمة، يقرأ كل ما وقعت عليه يداه من أبحاث العظام المتعلقة بالجذام، ليجد أن ضحايا هذا المرض حول العالم يبلغ عددهم نحو 15 مليونا، يعاني ثلثهم تقريبا من أطراف مدمرة، ولم يجد شيئا مشتركا يمكنه تفسير هذه الظاهرة من كساح العظام إلا مرض الجذام نفسه، لكن كيف؟
يبدأ رحلة البحث، يقوم بتشكيل فريق من المتخصصين ليعيدوا دراسة كل شيء، وخلال عدة شهور من اختبار آلاف المرضى وحساسيتهم للألم في مناطق مختلفة من اليد والقدم يلاحظ أخيرا أن ثمة نمطا متكررا يمكن البناء عليه، فقد كان 80% من المصابين بشلل في اليد فاقدين لحركة العضلات التي يتحكم بها العصب الزندي، وأن 40% يعانون من شلل بعضلات الساعد التي يدعمها الجزء الأدنى من العصب المتوسط، لكن العجيب أنه لم يرصد أي شلل في العضلات التي يدعمها الجزء الأعلى من العصب نفسه، ولاحظ أن الجذام يهاجم أعصابا محددة بانتقائية شديدة وبتوافق غريب.
كانت تلك النتائج دافعا أكبر لديه ليستمر في رحلة استكشافه، فلم يترك ورقة في طريقه عن الجذام إلا واطلع عليها، ليكتشف التاريخ الأسود لذلك المرض الذي كان يعد وصمة عار للمصابين به لأسباب غير منطقية أو مفهومة.
يمر بتجربة محبطة مع الفتى رومان، ذلك اليافع الصغير الذي زارته أمارات الجذام فلفظته عائلته وخافت منه قبل أن تلقي به إلى المستعمرة، وبعد عدة فحوصات وجلسات وجد أنه غير مصاب بالجذام، وأعاد له بول ثقته في نفسه مرة أخرى، قبل أن يعود الفتى إلى منزله مرة أخرى.
نام رومان هنيئا قريرا في تلك الليلة، وفي الصباح يقرر تفقّد أطرافه كما علمه بول، ليجد أن الدم يغطي أحد كفيه وأن جرذا قد تسلل إلى سريره فجرحه دون أن يشعر، لذا قرر أن يأخذ بثأره في الليلة التالية، فأخذ عصاه وفناره المضيء وجلس ينتظر الجرذ في تحفز، لكن النوم غلبه ليستيقظ ويجد يده الأخرى ملاصقة للفنار، وأن جزءا كبيرا من جلدها قد احترق دون أن يشعر بذرة من الألم.
لقد كان الأمر محبطا للغاية، فقرر العودة إلى بول الذي طمأنه، ولكنه بعد ذلك سأله السؤال الذي أخرج له بول كتابا مخصصا “دكتور بول، كيف يمكنني أن أكون حرا دون ألم؟”.
يخوض بول تجربة جديدة، فيخرج مع مريض آخر يدعى “نامو” في رحلة إلى إحدى الغابات حاملا مصباحا حراريا، ولم يشعر هذا اليافع بسقوط المادة العازلة عن جهاز الإنارة الذي يحمله حتى فوجئ عند النظر إلى يديه أن جلده قد احترق، يسأله بول: نامو، هل تؤلمك؟ ليجيبه الصغير: تعرف أنها لا تؤلمني، إني أعاني في ذهني، لأني لا أستطيع أن أعاني بجسدي.
عرف بول المشكلة، وبعد سنين وسنين من البحث والدراسة اكتشف ما كان يبحث عنه، الجذام لا يسبب الكساح ولا يُسقِط الأطراف، وإنما هي أعراض جانبية لافتقاد الألم، إذ يؤثر هذا المرض على هذا الشعور، ومن ثم افتقاد المنبه الطبيعي الذي يخبرنا متى نتوقف وإلى أي مدى يُسمح لنا بالحركة.
لا يجد بول مثالا أصدق على نظريته من قصة اللاعب الأميركي الشهير بوب غروس الذي بدأ فريقه إحدى المباريات المهمة قبل أن تتعافى إصابة كاحله، فيقرر طبيب الفريق حقنه بمسكن الماركين القوي حتى لا يشعر بالألم.
تبدأ المباراة ولا يشعر اللاعب المحترف بأي ألم في كاحله المصاب عند الضغط عليه، ولا يشعر بإصابته وهي تتحول إلى كسر ينهي حياته الرياضية بعد دقائق من حقنة الماركين.
وما حدث هو أن الطبيب وضع غروس في حالة من انعدام الألم بإصابته، فأصبح نظام التحذير خارج نطاق التغطية.
كانت رحلة براند الطويلة مع مرضى الجذام ملهمه الأول لفهم محورية الألم وأهميته لأجسادنا، خاصة عندما اختبر المشكلة نفسها مع مرضى السكري في مرحلة ما قبل اختراع البنسلين، والمصابين بانعدام الإحساس الخلقي بالألم.
تماما مثل كتايا، الفتاة الصغيرة المصابة بهذا العيب الجيني لافتقاد الألم، فقد أتته ذات مرة مشوهة القدم تماما دون أن يكون بها أي مرض، فقد انخلع مفصل كاحلها عن ساقها بعدما تحاملت عليه كثيرا دون أن تعرج، فالعرج يضع القدم في وضع يحميها من مضاعفة الإصابة، ولكن جسد كتايا لم يكن يعرف ما يمر به ساقها، فلم يتدخل.
يفحصها بول ولا يجد بها عطبا يذكر، حتى الجذام لم تكن له أي علامات على جسد الطفلة ذات الأعوام الأربعة، لكن متلازمة انعدام الألم كانت كفيلة بتدمير الصبية، فلم تمر عليها 7 أعوام حتى تفقد ساقيها عبر البتر، بسبب الضغط المتواصل عليهما من التقرحات والكسور التي لا تأبه لها الفتاة، فضلا عن كسور ذراعيها وتشوهاتهما، وتمزق لسانها الذي كانت تمضغه في نوباتها العصبية التي سبّبها الانهيار النفسي التام، كل ذلك أدى لأن يسميها والداها “المسخ”، ولكنها لم تكن مسخا، وإنما صورة مجازية حقيقية للحياة بدون ألم.
الحنجرة التي لا تشعر بأي وخز لن تطلق منعكس السعال الذي يخرج البلغم من الرئتين إلى البلعوم، والذي لا يسعل أبدا يواجه خطر الإصابة بالالتهاب الرئوي، والذي لا يرمش قد يصيبه العمى، والذي لا تتغير حركته أثناء المشي لإراحة قدمه قد يفقدها تماما.
لقد اكتشف بول أخيرا أن الألم هو طبيبنا الأول، هو الذي يحذرنا ويوجهنا إلى الخطوات الصحيحة للتعامل مع الإصابات، لكن المعضلة الحقيقية هي أن الألم صار سيئ السمعة في عالمنا حتى بات الإنسان أضعف من مواجهته، ومن ثم أجهل الناس بفائدته.
إن الجهل بهذه المكانة المحورية للألم يصنع بشرا ضعفاء على أقصى درجات الهشاشة، يستسلمون للأطباء كفئران التجارب دون أن يدروا أنهم شركاء في رحلة العلاج مثلهم مثل الأطباء، لهذا يُخرج بول كتابه “هبة الألم”، ليخبرنا أن الألم ليس هو العدو، وإنما هو حليف يبلغنا عن الخطر الحقيقي، أو كما قال بول نفسه لأحد المتألمين -في مقارنة مع مريض جذام- “اشكر الألم.. إنه يمنعك من إيذاء أصابعك”.
اكتشاف المزيد من صحيفة 24 ساعة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.