في حصار واكو، استمرت مفاوضات 51 يوما عام 1993، بين الطائفة الداودية بزعامة ديفيد كوريش، ومكتب التحقيقات الفدرالي “إف بي آي” (FBI) الذي حاصرت قواته مجمع الطائفة ثم داهمته بالدبابات في 19 أبريل/نيسان 1993، فقضى العشرات بسبب حريق نشب في المجمع.
ظل زعيم الطائفة ديفيد كوريش على تواصل مع الشرطة طوال الحصار، ونجح التفاوض في إطلاق سراح 35 فردا من أتباعه بينهم 21 طفلا، مقابل إمدادات علاج وغذاء، ولكن في 19 أبريل/نيسان 1993، وفي محاولة للضغط على أفراد الطائفة للخروج، اقتحم عملاء القوات الفدرالية الأميركية المبنى بالدبابات وشنوا هجوما بالغاز المسيل للدموع، فاشتعلت نيران مجهولة المصدر، ما أدى إلى وفاة 80 شخصا، بينهم كوريش و28 طفلا.
طائفة “فرع داود” ونهاية العالم
بدأ تطور طائفة “فرع داود” يقلق الحكومة بعد تولي ديفيد كوريش زعامتها، حيث ادعى هذا الأخير أنه المسيح الموعود، وأن الرب أوحى إليه في طفولته ليقود هذه الطائفة، وأصبح يفسر الكتاب المقدس بمنظوره الخاص، ويركز على الآيات التي تخص نهاية العالم، وأخبر أتباعه أنه عليهم الاستعداد لهذا المصير.
وكان كوريش قد انضم لهذه الطائفة التي كان قد ترأسها “لويس رودين” في أوائل ثمانينيات القرن الماضي، بعد خلافه وصداماته المستمرة مع زعماء الكنيسة الذين كان يحضر معهم، وكانت الطائفة تعيش على قطعة أرض زراعية في مدينة واكو بولاية تكساس، وبَنت مجمعا لها سمته “مركز جبل الكرمل”، وبدأت الاستعداد لعودة المسيح.
مرّت الطائفة بخلافات وصراع على الزعامة انتهى بترؤس كوريش الذي أقام تعاليم خاصة، منها اتخاذ “نساء روحيات” زوجات له، وادعى أنه من حقه فعل ذلك مع من يشاء من نساء الطائفة، حتى من كانت منهن متزوجة، وكانت معظم “زوجاته” هؤلاء فتيات قاصرات دون سن الـ11، أنجبن منه عددا من الأطفال. وكشف أعضاء سابقون من الطائفة عن انتهاكات بالضرب والعقاب العنيف مورست بحق الأطفال بأمر من كوريش.
وآخر التعاليم التي دعا إليها كوريش “بناء جيش الرب” بعد إخباره أتباعه أن الرب أوحى له بذلك لأن الطائفة ستواجه الحكومة الأميركية يوما ما، ووعدهم بالنصر عليها، فبدأت الطائفة في شراء وتخزين الأسلحة في مجمعها، وانخرطت في تجارة الأسلحة بالتجزئة.
وبالنسبة للطائفة كان كوريش “الحَمَل” (the lamb) -وفقا لسفر الرؤية- الوحيد الذي يستحق فتح الأختام السبعة وتفسيرها وكشفها للعالم.
أسباب الحصار
تلقت السلطات الأميركية المختصة تقارير عن عمليات شراء وتخزين للأسلحة تمارسها الجماعة باستمرار، وكان ذلك سببا رئيسيا لجعلها تحت أعين الشرطة.
وشملت التقارير الأمنية مقابلات أجراها المكتب مع أعضاء سابقين في الطائفة وتاجر أسلحة نارية، ووثائق توضح شراء كميات كبيرة من الأسلحة والذخيرة والقنابل، ولصعوبة الوصول للمجمع أصبح عضو من الطائفة عميلا سريا لمكتب التحقيقات الفدرالي، وتمكن من تجميع أدلة كافية لتقديم طلب مذكرة تفتيش للمجمع وتوقيف كوريش.
وقبل ذهاب المكتب للتفتيش سرّب ساعي بريد محلي (عضو في الطائفة أيضا) أمر المداهمة لكوريش، فبدأت الطائفة بالاستعداد ليوم المواجهة، وجهزت كمينا للشرطة.
وفي 28 فبراير/شباط 1993، حاصرت قوات الشرطة المبنى وأعلنت لمن فيه أن لديها أمرا بالتفتيش، لكن الطائفة رفضت ذلك واندلعت اشتباكات مسلحة في المكان. واستمر تبادل إطلاق النار بين الطرفين نحو ساعتين، قتل خلاله 4 أفراد من الشرطة و6 من أعضاء الطائفة.
بداية الحصار
لم تستطع الشرطة دخول المجمع، ففرضت حصارا عليه، وانضمت قوات إنقاذ الرهائن في مكتب التحقيقات الفدرالي لإخراج المحاصرين ولمحاولة التوصل إلى حل مع كوريش، الذي أكد إصابته بطلقين ناريين، ووسط التغطية الإعلامية التي حظي بها الحدث، ازداد الوضع تعقيدا، خصوصا بعد تواصل كوريش مع قناة “سي إن إن” (CNN) وإذاعة “دالاس”.
واستطاعت قوات إنقاذ الرهائن إخراج 10 أطفال من المجمع بعد سلسلة من المفاوضات مع كوريش، الذي استمر في التهديد برد عنيف، ثم أحاطت القوات الفدرالية المجمع بالمدرعات وقطعت الاتصالات فيه، وسمحت بإرسال واستقبال المكالمات مع فريق التفاوض فقط، في محاولة للضغط على كوريش وأتباعه.
واستمر حصار المقر يومين، لكن مكتب التحقيقات الفدرالي تولى القضية حصريا بعد ذلك، وأكمل حصاره للطائفة وعزز المنطقة بالمدرعات والقوات المسلحة التي بلغ عدد أفرادها 900.
مزيد من المفاوضات
في اليوم الثالث أرسل كوريش لقوات الشرطة شريطا مسجلا فيه تعاليمه الدينية، ووعد بالاستسلام إن قامت السلطات ببث التسجيل عبر وسائل الإعلام، ووافق مكتب التحقيقات الفدرالي وبث الشريط عبر شبكة مسيحية، لكن كوريش بعدها أرسل ردا إلى فريق المفاوضات مخبرا إياهم أن الرب تحدث إليه وطلب منه الانتظار.
استمرت المفاوضات عدة أيام أخرى، وفي الخامس من مارس/آذار 1993، خرجت طفلة من المجمع عمرها 9 سنوات، وعلى سترتها كتبت أمها عبارة “بمجرد خروج الأطفال، سيموت الكبار”، لكن كوريش ومساعده نفيا ذلك، وأنكرا أي تصرفات انتحارية جماعية، وحصل المكتب على بيانات أفادت أن الجماعة لديها حصص كافية من الطعام تكفي لعام.
واستمرت المفاوضات، وكانت تصل في كل مرة إلى طريق مسدود، وطلبت الطائفة إمدادها بحليب الأطفال لكن الشرطة رفضت واشترطت الإفراج عن مزيد من الرهائن، لكن كوريش رد بأن كل الأطفال الموجودين داخل المجمع هم أولاده من عدة نساء، وانتهى التفاوض بتسلمه علبا لحليب الأطفال في اليوم الموالي.
وفي اليوم نفسه أرسل كوريش مقطعا مصورا للأطفال الموجودين في المجمع، لكن السلطات رفضت نشره خوفا من أن يحظى هو وطائفته بدعم وتعاطف شعبي.
في اليوم العاشر قطعت السلطات الكهرباء عن المجمع، مما تسبب بغضب أعضاء الطائفة، وأوقف كوريش المفاوضات مشترطا إعادة الكهرباء، ووقتها رصدت الشرطة أسلحة موجهة إليها من خلال نوافذ المجمع، فقررت تغيير إستراتيجيتها.
واستمرت السلطات بقطع الكهرباء في اليوم التالي، في ظل رفض كوريش وجماعته التواصل، وتوقعت الشرطة أن ذلك سيزعزع الثقة بكوريش وسيزيد الضغط عليه، لأن طائفته لن تتحمل المزيد.
ضغط مستمر
في 14 مارس/آذار 1993، وبعد حلول الظلام، سلطت القوات أضواء ساطعة على المجمع من أجل زيادة الضغط على من فيه وإزعاجهم خلال وقت النوم.
وفي اليوم التالي، أصرت القوات على استمرار المفاوضات والحل السلمي، لكنها رفضت الاستماع إلى أي مما سمته “ثرثرة الكتاب المقدس”، مما أعاد المفاوضات لنقطة الصفر، وبعدها بأيام أوقف كوريش التفاوض.
وفي محاولة لبث الثقة وزرع الأمان لدى أعضاء الجماعة مرة أخرى، أرسلت القوات وثائق رسمية وقانونية ورسائل من محامي عينته سابقا لكوريش، لإقناعه بالخروج وبتخفيف التهم.
واستمر خروج بعض أعضاء الجماعة، لكن بأعداد قليلة، وبقيت أعداد كبيرة محاصرة بالداخل، وبقي كوريش مصرا على قوله إن “الإله طلب منه الانتظار”.
لجأت قوات الشرطة إلى حيلة أخرى، حيث شغلت موسيقى صاخبة عبر مكبرات صوت، لكن ذلك لم يأت بنتيجة.
وفي 22 مارس/آذار بدأت مناقشات في فريق إدارة الأزمات الإستراتيجية، وطرحت فكرة محاولة إخراج من بالمجمع باستخدام الغاز المسيل للدموع، لكن الفكرة لم تلق قبولا، فقد رأى المسؤولون أن الحل السلمي ما يزال ممكنا، وعرضوا على كوريش صفقة جديدة، شرط خروج كل من بالداخل قبل الساعة 10 صباحا من اليوم الموالي.
لكن في الصباح لم يخرج سوى شخص واحد، فعادت قوات الشرطة إلى تشغيل الموسيقى الصاخبة، وبدأت مهاجمة كوريش في المؤتمرات الصحفية واصفة إياه بـ”الكذاب والجبان”.
ثم في 25 مارس/آذار هددت في حال لم يغادر ما بين 10 إلى 20 شخصا، فإنها ستبدأ باتخاذ إجراءات مغايرة، وبسبب عدم انصياع كوريش وأتباعه للأوامر تحركت المدرعات وبدأت بإزالة كل ما بطريقها وسحقت سيارات ودراجات الطائفة.
وبعدها بيوم طبقت القوات كل إستراتيجياتها، فأشعلت الأضواء والموسيقى وبدأت تحلق بطائرات الهيلوكوبتر فوق المجمع، وأصدرت إنذارا أخيرا قبل خطوتها اللاحقة، ثم بدأت بتطهير الجانب الأمامي من المجمع.
وفي 28 مارس/آذار بقي كوريش يصر على أنه “ينتظر كلمة من الرب”، وأكد ألا نية له في الموت، ثم أرسل شريطا مصورا يظهر وضعية 19 طفلا مرهقين داخل المجمع.
في اليوم التالي التقى كوريش محاميه ديك ديغيرين وجها لوجه لمدة ساعتين تقريبا عند باب المجمع، رغم اعتراضات كثيرة من المسؤولين، كما التقيا مرة أخرى في اليوم التالي، في محاولة من المحامي لإقناع كوريش بالخروج.
وتوقع المسؤولون وفريق إدارة الأزمات خروج المحاصرين في فترة عيد الفصح التي تمتد بين الثاني والعاشر من أبريل/نيسان، لكن ذلك لم يحصل.
بعد مرور شهر.. احتفالية عيد الفصح
رغم دخول عيد الفصح فإن أتباع الطائفة الداودية رفضوا الخروج، فاستمرت القوات المحاصرة لهم بتشغيل الموسيقى، لكنها تلقت شكاوى كثيرة بتسببها بإزعاج المحيطين، مما أعاد إلى الواجهة خطة استخدام الغاز المسيل للدموع.
وفي التاسع من أبريل/نيسان تلقت قوات مكتب التحقيقات الفدرالي رسالة من كوريش، رجحت من خلالها أنه أصيب بمرض الذهان، وهو اضطراب نفسي يسبب أشكالا شاذة من التصور والتفكير، وخلصت إلى أنه ليس لديه رغبة في الخروج طواعية، فبدأت تخطط لاستخدام الغاز، منتظرة الموافقة من المسؤولين.
ثم بدأت السلطات في اليوم الموالي بإحاطة المجمع بأسلاك شائكة، وفي 12 أبريل/نيسان نوقشت فكرة استعمال الغاز كتكتيك وليس للهجوم، مع إدخاله على مراحل وترك مناطق سليمة لخروج المحاصرين.
في 14 أبريل/نيسان أكد كوريش أنه لن يخرج حتى يكتب مخطوطة تشرح الأختام السبعة (من سفر الرؤيا في الكتاب المقدس، والتي تتحدث عن نهاية العالم)، ووقتها كانت القوات تتوقع أن الداوديين لن يصمدوا كثيرا لاحتمال قرب نفاد مخزون الماء لديهم، لكنهم فيما بعد وجدوا ما يفند ذلك.
وفي 16 أبريل/نيسان رفض المسؤولون الإمضاء على خطة الغاز المسيل للدموع، وطالبوا بتقرير يصف الوضع داخل المجمع ودرجة التقدم في المفاوضات.
وفي اليوم الموالي اجتمع المسؤولون مرة أخرى، بمن فيهم النائب العام للولايات المتحدة جانيت رينو والنائب العام المساعد السابق ويبستر هوبيل وغيرهم من مسؤولي وزارة العدل، وراجعوا الخطة وقواعد الاشتباك، فوافقت جانيت رينو أخيرا على الإمضاء عليها، تاركة القرارات التكتيكية للموجودين في الميدان.
نهاية الحصار.. الهجوم بالغاز المسيل
في السادسة صباحا من اليوم الأخير 19 أبريل/نيسان 1993، بدأ مكتب التحقيقات الفدرالي بتنفيذ خطة الغاز، حيث أحدثت المدرعات ثقوبا في جدران المجمع وألقت فيه قرابة 400 عبوة للغاز المسيل للدموع، ثم بدأت اشتباكات مسلحة داخل المجمع وفي محيطه مدة 5 ساعات.
وقد شبت النيران في المجمع، ولم يسمح لرجال الإطفاء بالدخول لدواع تتعلق بالسلامة، واستمرت الاشتباكات، غير أن الحريق أتى على المجمع واستحال معه إنقاذ من كانوا داخله.
خلال المداهمة تمكن 9 أشخاص من الفرار، بينما توفي كل من بقي بالداخل، وعثر المحققون على 75 جثة، منها 25 لأطفال، ووجدوا أن بعض الجثث أصيبت بطلقات نارية، منها جثة كوريش، وبعضها بدت عليه جروح كأنها مفتعلة من أصحابها، مما جعل البعض يرجح محاولة انتحار جماعية.
وألقي القبض على التسعة الناجين وحكم عليهم بالسجن لفترات متفاوتة بتهمة حيازة الأسلحة بطرق غير قانونية.
تداعيات الحدث في أميركا
أثارت الحادثة صخبا واسعا واعتراضات كثيرة على سياسات الحكومة الأميركية في التعامل مع المشكلة، ورغم أن الحكومة أكدت أنها لم تشارك في بدء أو نشر الحريق، فقد تم الكشف عام 1999 أن الغاز المسيل للدموع الذي استعمل كان قابلا للاشتعال.
أعلنت جانيت رينو مسؤوليتها عن الغارة، واعترفت بعدم وجود دليل على استمرار إساءة معاملة الأطفال، وهي المبرر الذي كان سببا رئيسيا للمداهمة.
وبغض النظر عن هذه النتائج خلص تحقيق عن المداهمة إلى أن الحكومة الأميركية “لم تتسبب بالحريق ولم تطلق النار على المجمع”. وقالت معظم تقارير الحكومة الأميركية، إن أتباع “طائفة فرع داود” كانوا السبب في بدء الحريق، ثم أطلقوا النار على بعضهم في ما قيل إنه “انتحار جماعي”. وترى بعض التفسيرات أن الاشتباكات تسببت في الحريق عن غير قصد.
ولا يزال الناجون من “الطائفة الداودية” مؤمنين بأفكار ديفيد كوريش رغم وفاته، ويعيشون في المجمع نفسه بعد ترميمه وإعادة بنائه، حتى إن بعضهم ينتظر “عودة كوريش من الموت، ليقودهم مرة ثانية”.
اكتشاف المزيد من صحيفة 24 ساعة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.