الخرطوم- بعد أن أثار انزواء الشرطة منذ اندلاع القتال العنيف بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع كثيرا من التساؤلات، ظهرت قوات الاحتياطي المركزي السبت الماضي جنوب الخرطوم، في سيارات بيضاء مكشوفة وعليها أسلحة منصوبة، إيذانا بالعودة ربما لممارسة دور اختفى وقت الحاجة.
ولم تقدّم وزارة الداخلية السودانية على مدى أيام طويلة أي تفسيرات لغياب الشرطة وحتى قوات الدفاع المدني التي لم يشهد أحد وجودها لإخماد عشرات الحرائق التي خلفها القصف والاشتباكات في البلاد، كما لم تقم بدورها في إنقاذ العالقين بحطام المنازل التي دمرها القصف في أحياء عديدة وتركت المهمة للمتطوعين والأهالي.
وقالت وزارة الداخلية -في بيان- إن قوات الاحتياطي المركزي المعروفة شعبيا باسم “أبو طيرة” خرجت إلى الميدان بهدف تأمين الأسواق وممتلكات المواطنين التي تعرضت للنهب والسلب والتخريب.
وأوضحت أن تلك القوات هي فصيل تابع للشرطة يقوده ضباط من خريجي كلية علوم الشرطة والقانون، وذلك ردا على اتهامات أثارتها قوات الدعم السريع بأن من تم نشرهم تحت غطاء شرطة الاحتياطي هم منسوبو “الأمن الشعبي”، المحسوبة على نظام الرئيس السابق عمر البشير.
وبدا أن اختيار نشر قوات الاحتياطي في جنوب الخرطوم تحديدا ذو مغزى أمني وإستراتيجي يخدم أغراضا تأمينية واضحة، خاصة أن جنوب العاصمة شكل بؤرة مواجهات شرسة بين الطرفين كان مسرحها أحياء جبرة وجبل الأولياء، حيث القاعدة العسكرية المحورية التي اشتعلت فيها الأسبوع الماضي معركة حامية بالطائرات والمضادات الجوية، كما تم قصف معسكر للدعم السريع بمنطقة طيبة الحسناب.
تسليح ومهام قتالية
تأسست شرطة الاحتياطي المركزي عام 1974، ضمن وحدات شرطية أخرى، ويقدر عددها بنحو 80 ألف عنصر، وهي قوات شبه قتالية جرى تدريبها على فض النزاعات القبلية، وشاركت في حرب إقليم دارفور (غربي البلاد) خلال حكم الرئيس البشير، إذ حظيت بتأهيل وتسليح أعلى من بقية وحدات الشرطة الأخرى، وخُصص لها مقر ضخم جنوب الخرطوم.
ومارس/آذار 2022، فرضت الولايات المتحدة عقوبات على هذه القوات بعد اتهامها بارتكاب انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان بجنوحها لاستخدام القوة المفرطة في مواجهة المتظاهرين خلال الاحتجاجات التي اندلعت بالخرطوم منذ إجراءات الجيش بحل الحكومة المدنية يوم 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021، مما أدى لمقتل نحو 125 من المتظاهرين السلميين وجرح الآلاف.
وشاركت قوات الاحتياطي المركزي ضمن فرق مؤلفة من الجيش وجهاز المخابرات في عمليات عسكرية عديدة، بينها التصدي لهجوم شنته حركة العدل والمساواة على الخرطوم عام 2008، كما تقوم بمهام نوعية في التأمين، خاصة على الطرقات والمراكز الحيوية.
وبحسب مراقبين، فإن السجل العنيف لقوات الاحتياطي المركزي تزايد بعد إجراءات قائد الجيش يوم 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021، واتهامها بارتكاب انتهاكات جسيمة ضد المتظاهرين المناوئين للحكم العسكري.
ويعزو ضابط رفيع بالشرطة السودانية -تحدث للجزيرة نت- الصيت السيئ لشرطة الاحتياطي وملاحقتها بالانتهاكات لتميزها عن سواها من فصائل الشرطة بالتدريب العالي والتسليح شبه العسكري، مضيفا أن قوات الاحتياطي المركزي تستخدم أنواعا مختلفة من الأسلحة، منها الرشاشات والمضادات والبنادق الحديثة العالية الدقة.
ويشير الضابط كذلك إلى وجود وحدات نوعية بقوات الاحتياطي مؤلفة من بعض عناصر النخبة للتدخل السريع، خاصة في حسم التفلتات والصراعات القبلية وحققت نجاحا لافتا في ذلك.
أهمية جنوب الخرطوم
ويُقدّر عدد سكان منطقة جنوب الخرطوم -المكونة من نحو 20 من الأحياء السكنية- بأكثر من 700 ألف نسمة، وتمثل المنطقة أهمية إستراتيجية كبيرة تستوجب إحكام السيطرة عليها لمنع تدفق الدعم اللوجستي لقوات الدعم السريع من الولايات المتاخمة أو معسكراتها الجنوبية.
وتطل مناطق الجنوب على منافذ متعددة، وفيها الميناء البري الرئيسي الذي يربط الخرطوم بطرق قومية إلى غرب البلاد ووسطها وشرقها، كما يمكن التوجه جنوبا إلى ولاية النيل الأبيض المتاخمة للخرطوم، ومنها إلى ولايات سنار (وسط) أو النيل الأزرق المتاخمة لإثيوبيا.
ويقول الخبير العسكري اللواء الطيب عبد الجليل إن جنوب الخرطوم تمثل عمقا إستراتيجيا، خاصة مناطق الأزهري وجبرة، وفيها منازل خاصة لأسر قادة الدعم السريع متوقعا استمرار نشاط العمليات في هذه المنطقة مع تأمين شرق ووسط وغرب العاصمة الخرطوم.
وقال عبد الجليل -في حديث للجزيرة نت- إن التوقعات تشير إلى نشر قوات من الاحتياطي المركزي لتأمين عمليات جنوب الخرطوم، مشيرا إلى أن تلك القوات لديها قدرات خاصة في السيطرة وتأمين المواقع المدنية مع إسناد القوات المسلحة نحو أي تفلتات لعناصر الدعم السريع حال استعمال الأسلحة الثقيلة.
وأكد الخبير العسكري أن العمق الجنوبي للخرطوم يعد ملاذًا آمنًا لأفراد الدعم السريع، لكن رغم ذلك لا يملكون غطاء، بينما لدى الأجهزة الأمنية المعلومات الكافية حول وجودهم بالأحياء السكنية وتمددهم فيها.
تطويق وسط الخرطوم
وتشكل أحياء جنوب الخرطوم -بحسب الخبير الإستراتيجي عثمان محمد- حزاما يطوق وسط الخرطوم التي تضم قيادة الجيش ومطار الخرطوم والقصر الجمهوري.
ويعتقد عثمان أن سيطرة الجيش على جنوب العاصمة يمثل بعدًا حاسما في إنهاء أي وجود لقوات الدعم السريع حول محيط قيادة الجيش ومطار الخرطوم، ويحد من عمليات إمدادها وحركتها لوسط وشرق الخرطوم الذي يضم مرافق إستراتيجية مهمة، مثل الوزارات والمؤسسات الخاصة.
ولفت إلى أن منطقة جنوب الخرطوم تتمتع بعدة مداخل لقلب العاصمة، ومنها لمدينتي بحري وأم درمان، كما أن سيطرة الجيش عليها ونشر قوات الاحتياطي المركزي لتأمينها تعد خطوة إستراتيجية مهمة حاليا، وهو ما يعني التحكم التام في الحركة تجاه القصر الرئاسي وقيادة الجيش ومطار الخرطوم وبعض الشوارع الرئيسية، مثل شارع أفريقيا المؤدي للمطار، وشارع عبيد ختم أحد الشوارع المحورية في شرق العاصمة.
انتشار غير مبرر
ويرى المحلل السياسي أحمد عابدين -في حديث للجزيرة نت- أن الطبيعي هو انتشار الشرطة وليس قوات الاحتياطي المركزي، لأنها ذات مهام قتالية وشاركت الجيش في حرب دارفور، ولديها آليات قتالية متطورة، والأخطر من ذلك أنها قوات تشبه هيئة العمليات التابعة لجهاز المخابرات -تم حلها مؤخرا- من حيث التكوين، وبالتالي هي الآن أقرب للمهام القتالية من حفظ الأمن.
ولا يستبعد عابدين تنسيق الجيش مع هذه القوة لمساعدته في مهام مشتركة، وهنا ستجد هذه القوات نفسها في ميدان المعركة، وبالتالي سيتعامل معها الدعم السريع كعدو، ومن ثم تتسع الدائرة في الميدان وستشمل جميع القوات النظامية.
ويردف أن “هذا الواقع ربما حوّل الخرطوم لمدينة أشباح ونقل الحرب لمستوى أعلى، فبدل نزاع محدود سيتحول لصراع أشمل”.
اكتشاف المزيد من صحيفة 24 ساعة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.