صبيحة أحد الأيام، وفي كنيسة سان فيتالي مارتير في نابولي، وقبل البداية في تلاوة الصلوات، بدأ الكاهن فابيو دي لوكا بغناء أحد هتافات جماهير نابولي الشهيرة التي تقول: “سأكون معك دوما.. عدنا أبطالا من جديد”، وردد جميع الحاضرين خلفه في أجواء تشبه تلك التي يصنعونها في ملعب دييغو أرماندو مارادونا، أو سان باولو سابقا. (1)
ما قرأته صحيح. لا تندهش، فالحدث ليس عاديا. بعد 33 عاما من العيش على ذكرى مارادونا، لم يعد أبناء نابولي مضطرين للانتظار أكثر، اليوم هم أبطال إيطاليا كما كانوا مرتين من قبل، حين ظنوا أن الزمان لن يجود بدييغو آخر لكي يحقق لهم ذلك الحلم مرة أخرى. ثم أتى رجل يُدعى لوتشيانو سباليتي، يشبههم تماما، كان يخبئ حلما قديما في قلبه، وينتظره مثل سكان الجنوب طيلة أكثر من 30 عاما. (2)
مدينة مارادونا
“في يوفنتوس يبحثون عن الفوز دائما، ولكن في نابولي، مدينة مارادونا، هناك بحث عن جمالية كرة القدم، هذه هي الطريقة التي تحيا بها المدينة”.
بتلك الكلمات التي تُلخِّص كل شيء، عبَّر لوتشيانو سباليتي عن جوهر مدينة نابولي، وعن ذلك الجمهور الذي لم ينسَ، في بحثه عن الفوز، لذة البحث عن الجمال، وذلك الجنون الذي جعلهم يذهبون إلى قبور الموتى ويخبرونهم: “آه لو تعلمون ما فاتكم!”، لأنهم لم يشاهدوا سحر مارادونا. وهنا، لا تعلم مَن وجد ضالته في الآخر بين نابولي وسباليتي، ومَن منهما أكثر حظا لأن طريقه تقاطع مع طريق الآخر، ليمتزج السحر والجنون ببعضهما وتكون نتيجتهما تلك الصورة التي أبهرت العالم في موسم استثنائي بكل المقاييس. (3)(4)
في مدينة كتلك، يمكن لسباليتي أن ينثر سحره دون أن يُتهم بالجنون، بل إن اتهامه بالجنون سيكون وساما على صدره بين سكان الجنوب؛ الذين لم يقدّسوا أحدا بقدر تقديسهم لدييغو، أكثر لاعبي كرة القدم جنونا عبر التاريخ ربما، وفيه رأوا ما يشبههم، السحر والمتعة التي أنتجت لقبا تاريخيا، بالأحرى أنتجت لقبا بات تاريخيا لأنه جاء نتاجا للسحر والمتعة والجنون ليس إلا.
رواية مارادونا ولقبي الدوري الإيطالي في 1987 و1990 ظلت تنتقل من جيل إلى جيل، حتى وُلد أطفال الألفية الحالية يعشقونه دون أن يروه، يرتدون قمصانه أكثر مما يرتدون قمصان نجوم زمنهم، لأن جاذبية دييغو لم تتوقف عند حدود ما فعله لاعبا، وإنما تكمن في الحكاية نفسها كما عاشها سكان الجنوب ونقلوها لأبنائهم. لذلك، وربما هذا ما يؤكد لك أنه لا وسيلة لتحقيق الألقاب في تلك المدينة إلا بالحكايات المشابهة، التي بُعث لوتشيانو سباليتي بواحدةٍ منها في 2023. (5)
عزيزي مارتشيلو.. سأفوز بالدوري الإيطالي
“أُهدي هذا اللقب لشقيقي مارتشيلو -الذي توفي قبل 4 سنوات-، قبل أن أبدأ مسيرتي التدريبية قلت إنني سوف أهدف للفوز بالاسكوديتو، فسخر مني الجميع، أما هو فساندني، والآن، لقد فعلتها”.
Luciano Spalletti’s brother Marcello died four years ago. Here’s the scudetto coach cracking up while dedicating this title to Marcello pic.twitter.com/O35t2TVQ1v
— Siavoush Fallahi (@SiavoushF) May 4, 2023
بمجرد تتويج نابولي بالدوري الإيطالي، لم يستطع لوتشيانو سباليتي أن ينطق بأي شيء قبل تلك الكلمات، التي تكشف عن حلم قديم في قلبه امتد لمسيرته بأكملها، لم يشهد عليها أحد بصدق شقيقه الراحل مارتشيلو، الذي لم يُكتب له أن يأخذ لوتشيانو بين ذراعيه ويبكيان معا بعد تحقيق الإنجاز. (6)
مسيرة تدريبية بدأت في تسعينيات القرن الماضي، في فترة رحيل مارادونا عن نابولي نفسها تقريبا، والفترة نفسها التي انطلق فيها حلم الأصلع التوسكاني إلى عنان إيطاليا، باحثا عن لقب الاسكوديتو الذي يريد الفوز به، ومواجها سخرية شديدة كلما كان يبوح بذلك، بينما يراود حلم الاسكوديتو ذاته جماهير نابولي التي عاشت معجزة تحقيق لقبي جيل دييغو، ولا يعرفون أكانت معجزة أخرى ممتدة من “يد الرب” ولن تتكرر، أم أن الزمان يمكنه أن يجود بمشهد ساحر آخر، حتى وإن لم يجُد بدييغو جديد. (7)
التشابه في الأقدار بين نابولي وسباليتي لم يبدأ عن حدود كرة القدم، بل منذ النشأة، حيث البيئة الفقيرة التي يعاني منها سكان الجنوب، وعانى منها لوتشيانو في إقليم توسكانا. بعد الفوز التاريخي على يوفنتوس بخماسية تحدَّث سباليتي عن سخرية البعض من الأحذية التي يرتديها، معلِّلا ذلك بأنه كان يحلم بارتدائها في طفولته حين لم يمتلك الأموال لشرائها، وأراد أن يرتديها في ذلك الموسم تحديدا، ربما لأنه أراد أن يرتبط حلم الاسكوديتو بأحلام الطفولة. (8)
وفي نابولي، بلد المعجزات كما وصفها سباليتي، لن تحقق الدوري بالحرس القديم وأصحاب الخبرات، بينما يمكنك تحقيق ذلك من خلال أسماء أقل بريقا وأكثر قدرة على استيعاب أفكارك المتحررة دوما، التي تحتاج إلى لاعبين يمكنهم الاستغناء عن سطوة النجومية والطريقة التي اعتادوا بها رؤية كرة القدم، مقابل اكتساب ما في عقل الرجل التوسكاني من جنون. (9)
? Non stiamo sognando… #Napul3 campione!
? #ForzaNapoliSempre #TuttoPerLei pic.twitter.com/IBO1yu83xz
— Official SSC Napoli (@sscnapoli) May 5, 2023
حُمّى الوصافة
خلال رحلة تشابه الأقدار تلك، كلما اقترب نابولي أو سباليتي من الذهب كان مصيرهما السقوط في الأمتار الأخيرة، والغريب أن سيناريوهات الحياة منحتهما ألقابا ثانوية، بين كأس وسوبر إيطاليين، لكن لقب سكوديتو واحد كان يكفي لتتحقق الرغبة الحقيقية الكامنة داخل أعمق نقطة في قلب كل نابوليتانو، وفي قلب الأصلع التوسكاني كذلك. ولسوء حظ كليهما، اقتربا كثيرا ولم يحققاه.
قبل نحو 10 سنوات من الرحلات المتخبطة بدأت مسيرة سباليتي التدريبية، من إمبولي إلى سامبدوريا وفينيسيا وأودينيزي وأكونا، حتى عاد إلى أودينيزي مرة أخرى في 2002 لتتضح معالم تجربة ما، أفكار جنونية تقود الفريق في 3 مواسم من فارق نقطة مع مراكز الهبوط إلى التأهل لدوري أبطال أوروبا، ويحصل لوتشيانو على جائزة أفضل مدرب في إيطاليا، وينال من الاحترام ما يستحقه أخيرا، ولكنه ما زال يبحث عن الحلم الذي أخبر به أخاه؛ يريد أن يفوز بالاسكوديتو. (10)
في تلك الفترة كان نابولي يعاني من التقلب بين الدرجة الأولى والثانية، حتى بدأ يستعيد التوازن في 2010 بتحقيق المركز السادس، وهو المركز نفسه الذي حققه سباليتي في موسمه الأخير مع روما عام 2009، بعد 3 مواسم متتالية في الوصافة، تلك التي أدمنها نابولي لسنوات سيطرة يوفنتوس على اللقب وظل يتبادلها مع روما، الذي عاد له سباليتي في موسم ليخطف الوصافة من فريق الجنوب بفارق نقطة واحدة، قبل أن يرحل من جديد. (11)
سيناريوهات عجيبة ظلت تحدث لسنوات، لتُثبت أن هناك رابطا ما بين نابولي وسباليتي يؤكد للجميع أنهما خُلقا ليلتقيا، لا بد لتلك الثنائية، التي يجمعها السحر وسوء الحظ والجنون والفنون وحب الاستمتاع بكل شيء، أن يجمعها القدر في مشهد واحد. صحيح أن ذلك سيكون خطرا على العالم من فرط الجنون، ولكنها بالطبع تجربة يحب الجميع مشاهدتها.
لماذا يحب الجميع مشاهدتها؟ لأنه في موسم 2022، حين تراجعت نتائج نابولي قامت الجماهير بسرقة سيارة سباليتي، وكتبوا على الحائط المقابل للفندق الذي يسكن فيه: “سنعيد لك سيارتك بمجرد رحيلك عن تدريب الفريق”، ولم يرحل لوتشيانو، ولم يحصل على سيارته الفيات، ولكنه في العام التالي فاز بالدوري الإيطالي وبكى لأنه جعل شعب الجنوب سعداء. بالله، أين يمكنك أن تشاهد ذلك العجب مع نادٍ ومدرب غير هذه الثنائية! (12)
12’th May 2022 : ” Spalletti, we will return your Panda, provided you leave. “
Napoli fans stole his car and demanded his exit with banner.
5th May 2023 : Spalletti ” HOLD MY BEER “.
OLDEST TRAINER IN HISTORY TO WIN SERIE A.
TALK ABOUT GREATEST COME BACKS ? https://t.co/CBew0xvdrr pic.twitter.com/dIU6aVqQQX
— ?.?.? (@MisterCuler) May 4, 2023
أجمل من السينما
لا توجد ليلة في حياة ليونيل ميسي أسوأ من تلك التي خسر فيها نهائي كأس العالم 2014، حتى إنه صرح بعدها بـ6 سنوات أنه لم يستطع تجاوزها بعد. لكن بعد التتويج بمونديال قطر في 2022، ربما أدرك ليو أنه احتاج إلى تلك الخسارة وفقا لسيناريو الحياة الكامل حتى يكون الفوز استثنائيا في نهاية المطاف، بالتأكيد لو حصل ميسي على جِنّيٍّ وخيَّره بين ملامسة الذهب في ليلة ماراكانا أو ليلة لوسيل لاختار الأخيرة. (13)
لولا الخسارة لما كانت لذة الفوز، ولولا الصبر ما كان للوصول قيمة، ولولا الظمأ لما عرفنا قيمة الماء، ولولا سنوات نابولي وسباليتي العجاف لما أصبحت حكايتهما بهذا الجمال. لوتشيانو وفريق الجنوب عاشا لأكثر من 30 عاما وهم يبحثون عن الشيء ذاته، ولم يُكتب لهما أن يجداه قبل أن يجدا بعضهما بعضا، كقصص الحب التي يبحث فيها اثنان عما ينقصهما، قبل أن يكتملا في المشهد الأخير حين يعثر كلٌّ منهما على الآخر.
سباليتي في كرة القدم يشبه الرجل الغارق في الرومانسية، الذي لن يحضر يوم زفافه إلا مع أنثى تذوب في عشقه. ستكون الحياة سخيفة جدا لو تزوج لوتشيانو ابنة عمته إرضاء لأبيه في نهاية المطاف. ونابولي كذلك، شعب غارق في الجنون والرومانسية والأحلام، لم يكن منطقيا أن تتحقق أحلامهم بفارسٍ غير لوتشيانو بعد كل القصص الأسطورية التي سردوها عن دييغو.
ربما لم ينقص ذلك المشهد سوى حضور الراحل مارتشيلو سباليتي للحظة تحقيق حلم أخيه، فرصة لاحتضان شقيقه لوتشيانو الذي حقق ما آمن به كلاهما، وبينما يبكي سباليتي في أحضان أخيه ويُذكِّره برهانهما القديم، ويخبره بقلبه ودموعه: “مارتشيلو.. لقد فعلتها أخيرا”، تشك جماهير نابولي للحظة أنها ضلت الطريق إلى ملعب دييغو أرماندو مارادونا ذاهبة إلى سينما لا بيرلا مولتي سالا، قبل أن تستفيق على حقيقة أن في الدنيا فصلٌ يحدث مرة كل 100 عام، يكون فيه الواقع أجمل من السينما!
————————————————————————————————-
المصادر
1 – الاحتفال بلقب الدوري الإيطالي في كنيسة سان فيتالي مارتير في نابولي
2 – نابولي يفوز بلقب الدوري الإيطالي بعد 33 عاما من الانتظار
3 – سباليتي يتحدث عن الفارق بين نابولي ويوفنتوس
4 – جماهير نابولي في قبور المدينة “آه لو تعلمون ما فاتكم”
5 – دييغو مارادونا – إله نابولي
6 – سباليتي يهدي لقب الدوري الإيطالي لشقيقه الراحل
7 – كيف فاز نابولي بالدوري الإيطالي بعد 33 عاما من مارادونا؟ – ذا أثلتيك
8 – سر أحذية لوتشيانو سباليتي
9 – سباليتي يصف نابولي بـ “بلد المعجزات”
10 – السيرة الذاتية للوتشيانو سباليتي
11 – المصدر السابق
12 – سرقة سيارة سباليتي من قبل “العصابة” التي تنتمي إلى جماهير نابولي
13 – ميسي: لم أستطع نسيان الهزيمة في نهائي كأس العالم 2014 أمام ألمانيا
اكتشاف المزيد من صحيفة 24 ساعة
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.